في دافوس مرة أخرى لحضور المؤتمر السنوي للمنتدى الاقتصادي العالمي، وشعار هذه السنة "بناء الثقة"، وهو شعار يصيب من حيث لم يقصد من نَحَته، فهو يعكس عدم وجود ثقة، بين كل طرف وآخر، وبين الولاياتالمتحدة والأطراف الأخرى مجتمعة. شارك في المؤتمر حوالى ألفي رجل وامرأة، بينهم 29 رئيس دولة أو حكومة، وحوالى 80 وزيراً، ومع ذلك شعرت بأن المشاركة هذه السنة على أعلى مستوى انخفضت، فقد مضت سنوات استضاف فيها المنتدى الرئيس حسني مبارك وأبو عمار، والسيئ الذكر بنيامين نتانياهو، والرئيس كلينتون وغيرهم. بيل كلينتون حضر هذه السنة، الا انه رئيس سابق، ورأيت شيمون بيريز في الأروقة، وهو أيضاً رئيس وزراء سابق ووزير خارجية سابق، وقد ذهب الوهج القديم، مع انه يظل من المعالم الأثرية لهذا المنتجع. هذه السنة قاد الحضور الأميركي وزير الخارجية كولن باول كان هناك أيضاً وزير العدل جون اشكروفوت، وشغل الناس في دافوس والعالم بخطابه عن العراق الذي استبق تقرير المفتشين الدوليين. ستكون لي عودة الى باول وخطابه، أما اليوم فأسجل مشاهدات منها ان البروفسور كلاوس شواب، مؤسس المنتدى ورئيسه منذ 33 سنة، قدم باول بالقول: "اننا قلقون Anxious بانتظار خطابك"، وأرجح انه قصد ان يقول: "اننا متشوقون EAGER"، إلا ان الكلمة الأولى كانت أقرب الى واقع الحال. باول زعيم جناح الحمائم في الإدارة الأميركية ويستحق سمعته. وكان معه ريتشارد هاس، المسؤول عن تخطيط السياسة في الوزارة، وهو معتدل ومنصف في موضوع نزاعنا مع اسرائيل، وقد ساعد باول في "روتشة" الخطاب، ومع ذلك وجدت أسباباً للقلق بينها انه إذا كان المعتدلون لهم هذا الموقف، فكيف لو سمعنا رأي الصقور في المواجهة على العراق؟ مرة أخرى، سأعود الى هذا الموضوع في الأيام المقبلة، أما اليوم فأكتفي من خطاب وزير الخارجية بفقرة لا تعنينا مباشرة، فهو قال: "يجب على اليابان ان تنفذ بسرعة برنامج رئيس الوزراء كويزومي للاصلاح، وتحديداً الديون الهالكة، وأن تبدأ نمو الاقتصاد المحلي. وأوروبا تحتاج الى أجندة نمو تتضمن اصلاح سوق العمالة والتشريعات. والصين تحتاج الى أن تنفذ كاملاً تعهدات السوق المفتوحة التي أعطتها لمنظمة التجارة الدولية". ماذا يعني هذا الكلام؟ فهمت أنه يعني ان الولاياتالمتحدة لها رأي في ادارة كل بلد. ولا تكتفي بأن تخطط لحرب على العراق يتبعها فرض الديموقراطية على الطريقة الأميركية في كل بلد عربي. مع ذلك أصرّ على أن كولن باول أفضل من غيره، ولم أغير رأيي وأنا أراه يجلس في كرسي على المنصة تمهيداً لإلقاء خطابه، ثم "يطيّر" قبلة إلى الحاخام آرثر شنيير، رئيس مؤسسة نداء الضمير في الولاياتالمتحدة، الذي رد بقبلة طائرة الى الوزير. أتمنى لو أن الإدارة الأميركية تركز على اليابان وأوروبا والصين وتنسانا الى حين، غير ان السناتور جوزف بايدن، وهو أعلى الأعضاء الديموقراطيين رتبة في لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ، قال في احدى الجلسات ان مشكلة الولاياتالمتحدة هي انها تؤيد حكومات عربية تقف ضد الاصلاح، فيعاني الأميركيون من فشلنا في معالجة مشكلاتنا. ورد عليه الأمير تركي الفيصل، السفير السعودي الجديد في لندن، فوراً فقال ان مشكلة الولاياتالمتحدة ليست هذا أو ذاك، فسبب العداء لها تحيزها الى اسرائيل وموقفها من القضية الفلسطينية، وهو كان ولا يزال السبب الأهم ضمن أسباب كثيرة. لو اخترت خمسة أعضاء فقط من مجلس الشيوخ اعتبرهم يفهمون الصراع العربي - الاسرائيلي، وعندهم جرأة في الحق، لكان السناتور بايدن احدهم، فهو ممتاز فعلاً تكلم بصراحة عن تحيز بلاده الى إسرائيل. وقلت له في الخارج: هل من العدل ان يكون هو عضواً في مجلس الشيوخ "فقط"، وجورج بوش رئيساً للجمهورية. وابتسم ابتسامة عريضة ولم يجب، إلا أن امرأة كانت ترافقه قالت لي ان هذا كان أفضل ما سمع ذلك النهار. بايدن يبقى محامياً ذكياً في الدفاع عن بلده، وهو احتج على الذين يلقون عليه محاضرات عن أخطاء بلاده وخطاياها، وقال ان بلاده ليست كاملة إلا انها ليست أسوأ من غيرها. وعندما تجمع حوله صحافيون أوروبيون، رفع اصبعه في وجوههم وقال: أنتم تدعون أننا نريد الحرب مع العراق من أجل النفط. "انتم لا تريدون الحرب من أجل النفط، فلكل بلد منكم عقود ومصالح مع نظام صدام. ان دافعكم هو النفط، وأنتم تتهموننا". طبعاً هو مصيب، وهم مصيبون، والنتيجة مصيبة على نفط العراق، قد لا تقف عند حدوده بل تكمل بنا جميعاً. سأعود الى جلسات محددة في الأيام المقبلة، ولكن أختتم اليوم ببعض الحاضرين من الأهل، وقد قلت في السابق وأقول اليوم ان الملك عبدالله والملكة رانيا أفضل دعاية للعرب في الخارج، وكما في نيويورك وآسبن، كولورادو، حيث رافقتهما، كذلك في دافوس، فأنا لا أسمع سوى كلمات الاعجاب، من الأجانب، بعملهما وجهدهما في تقديم صورة أفضل عن شعبهما وكل العرب في الخارج. وجلست مساء مع وزير خارجية الأردن الدكتور مروان المعشر والملكة رانيا تخطب في عشاء عن النساء العربيات والغربيات وبناء الثقة، ووجدته متعباً جداً، فارتحت لأنه أصغر مني سناً، وإذا كان هو قد تعب، فمن حقي بعد 16 ساعة عمل أن أتعب أكثر. وأكمل غداً بعد أن أكون ارتحت.