يبدو أن المغرب الثقافي قرر وقف احتكار الديبلوماسيين للملف الإسباني... وهكذا بعد مجلة "المناهل" التي خصصت عددها الأخير لموضوع الأنا والآخر مستحضرة جارتنا الشمالية، عادت مجلة اتحاد كتاب المغرب "آفاق" في عددها الجديد إلى مقاربة سؤال العلاقة مع إسبانيا من زاوية إيجابية من خلال ملف خاص عن الكاتب الإسباني المقيم في مراكش خوان غويتيسولو. ويُعدُّ غويتسولو، هذا "الإسباني على مضض" الذي يُقدّم نفسه كمراكشي بل وك"ابن جامع الفنا"، أحد أبرز المدافعين عن القضايا المغربية في إسبانيا. فالقراء المغربيون الذين تعرفوا إليه للمرة الأولى ككاتب سياسي من خلال تحليلاته المتعلقة ب"مشكل الصحراء" التي نشرتها صحيفة "العلم" سنة 1979 على حلقات، سينفتحون على جوانب أخرى من العالم الفكري لخوان مع أواخر الثمانينات حينما شرع بعض المثقفين العرب المقيمين في فرنسا وإسبانيا في ترجمة أعماله المتصلة بالأوضاع السياسية والتطورات الثقافية في العالم الإسلامي، أو تلك المُستَمدّة من أسفاره ومشاهداته. وكان كاظم جهاد ترجم كتاب "يوميات فلسطينية" الذي نُشر أصلاً في مجلة "الكرمل"، و"رحلات إلى الشرق" وهو ترجمة جزئية لكتاب "مقاربات كاودي في كابادوسيا"، ثم "في الاستشراق الإسباني" وهو العنوان الذي اختاره المترجم لكتاب "حوليات شرقية". وعمل طلعت شاهين على ترجمة كتب غويتيسولو المتصلة بالأوضاع التي عرفتها البوسنة في "دفاتر سراييفو"، والجزائر في "الجزائر في مهب الريح"، ثم الأراضي الفلسطينية المحتلة إثر اتفاق أوسلو في "لا حرب ولا سلم"، والشيشان في عهد يلتسين من خلال كتاب "مشاهد حرب الشيشان وخلفيتها". وتجدر الإشارة إلى أن هذه الكتب كانت نُشرت على حلقات في "الحياة" التي ساهمت في شكل كبير في التعريف بالكاتب الإسباني لدى قراء العربية. إلاّ أن المغاربة والقراء العرب عموماً لن يتمكنوا من ولوج العالم الأدبي والإبداعي لغويتيسولو إلا مع بداية التسعينات وذلك إثر صدور "على وتيرة النوارس"، وهو الكتاب الذي ضمّنه مترجمه كاظم جهاد فصولاً منتقاة من مختلف روايات الكاتب الإسباني. ومع بداية التسعينات يدخل على الخط مترجم آخر، وهو المغربي إبراهيم الخطيب مُعِدّ ملف "آفاق". وتعود علاقة الخطيب مع غويتيسولو إلى سنة 1983، لكن إقدامه على ترجمة إبداعه لم يغدُ نافذاً إلا في سنة1992حينما قام الخطيب بنشر ترجمة قصة "ألف ليلة من دون ليلة واحدة" في مجلة "على الأقل" التي كان يصدرها الأديب المغربي عبدالقادر الشاوي. وبعدها يكرس الخطيب جزءاً مهماً من مجهوده التّرجمي لتعريب روايات غويتيسولو، وهكذا أصدر على التوالي ترجمة كل من "الأربعينية" سنة 1994 و"أسابيع الحديقة" سنة 2000، ثم "حصار الحصارات" الصادرة سنة 2001 عن دار توبقال. وتتلخص الحصيلة الإجمالية لترجمة أعمال غويتيسولو إلى العربية في عشرة كتب تندرج في كاتالوغات ثلاث دور مغربية هي "الفنك"، "توبقال"، و"إفريقيا الشرق"، وأخرى مشرقية وهي "مصر العربية للنشر والتوزيع". ويمكن اعتبار تخصيص ملف العدد 68 من مجلة "آفاق" لغويتيسولو انتصاراً من اتحاد كتاب المغرب لمنطق خوان الرافض أساساً للنزعة الأوروبية الساذجة التي انخرطت فيها إسبانيا منذ بداية فترة الانتقال الديموقراطي، وهي النزعة التي قادتها إلى التنكر تدريجاً للكثير من مكونات هويتها الثرية والمتعددة ولتاريخها الأندلسي المُضيء والمبني أساساً على التسامح الديني والعرقي والتعايُش الخلاّق. ولعل ّ إقامة خوان فترة في حي "سانتيي" في باريس، حيث يتعايش العرب والأكراد واليهود والفرنسيون في لغَطٍ مُتناغم، هي التي جعلته يستعيد عبر حنين غامض ومبهم، اللحظة الأندلسية الفريدة التي تمّ خلالها تدجين الروافد الإسلامية واليهودية والمسيحية داخل فضاء مفتوح لا حدود فيه ولا عوائق. وهكذا بدأ خوان يزايد على النزعة الأوروبية التي هيمنت على الخطابين السياسي والإعلامي في إسبانيا بالدعوة إلى إعادة الإرتباط بجذور إسبانيا ما قبل عصر التفتيش. وسيمارس موقفه الأندلسي الحالم بالنضال إلى جانب الأقليات العرقية والثقافات المضطهدة، من دون أن يتوقف عن النبش لحظة في سلوك مواطنيه سعياً إلى تحييد مخلفات اللاتسامح وكراهية الأجنبي. ولأن المغرب حظي على الدوام بأهمية خاصة في أدب غويتيسولو وفكره، فإن الناقد إبراهيم الخطيب يتوقف في مقالته التي استعار الملفُّ عنوانَها "غويتيسولو: مسافر يستقرئ علامات عصرنا" عند روايتيه "دون خوليان" و"مقبرة". ففي "دون خوليان" التي تجرى أحداثها في طنجة، بل إن بطلها لم يكن سوى "لوليان الغماري" الذي قيل إنه سلّم مفاتيح الأندلس للمسلمين انتقاماً لشرف ابنته، ينتقد غويتيسولو الصورة السلبية للمغربي "المورو" في الخيال الجمعي الإسباني ولدى المستشرقين. فيما تنتصر "مقبرة" بالأساس للروح السردية العربية الإسلامية ذاك أن راوي "مقبرة" هو تجسيد أدبي متطور لذلك النوع من الرواة الشعبيين الذين تكتظ بحلقاتهم ساحة جامع الفنا في مراكش. في "مقبرة" بالضبط اتضح بجلاء أن انجذاب غويتيسولو الى مراكش التي استقر فيها منذ أواسط السبعينات لم يكن انجذاباً فلكلورياً عابراً، وإنما اختياراً وجودياً عميقاً من هذا الكاتب الذي ظل دائماً ينشد الحميمية المتحررة من أوهام المجتمع والتطابق الكلي بين الكتابة والكينونة. ومثلما يؤكد المكتب المركزي لاتحاد كتاب المغرب في تقديمه هذا الملف، فإن اكتشاف غويتيسولو ساحة جامع الفنا بتهجينها المُفرِح للغات والأشكال وتذويبها للفروق والتراتبيات شكّلَ حدثاً استثنائياً في مساره الوجودي والإبداعي، الأمر الذي جعله في قلب أو ريادة مطالبة اليونسكو بإدخال ساحة جامع الفنا قائمة التراث الإنساني، من أجل حمايتها من طيش مشاريع إدارية تفتقد روح الخيال والحس الجمالي ومن جشع المستثمرين. وبعد تعبئة عالمية جنّد لها كُتّاباً كباراً من أمثال كارلوس فوينتيس وخوسيه بالنتي استجابت اليونسكو، واعترافاً منها بجهوده منحته شرف كتابة نص ادخال الساحة ضمن التراث الإنساني. وحرص الاتحاد على عدم تقديم الملف باعتباره انفتاحاً على مشهد الأدب الإسباني الراهن، بل حاول التعامل معه كملف عادي من تلك الملفات التي اعتاد تخصيصها لبعض أعضائه اللامعين. وصار غويتيسولو اليوم عضواً في اتحاد كتاب المغرب، ويبدو أن التركيز على الانتماء المغربي و المراكشي تحديداً لهذا "الإسباني على مضض" يدخل في صميم طموح غويتيسولو نفسه الذي بلغ وهو يلج عقده السابع سن النضج الأندلسي. أندلس أخرى جديدة اكتشفها خوان في مراكش، في مقهاه الصغير قرب فندق "ساتيام" في جامع الفنا، وفي الأزقة الضيقة التي يعبرها يومياً بين المقهى وبيته المراكشي القديم في "القنارية" أحد الأحياء العتيقة المجاورة لساحة البهجة والصخب.