وجدت بريطانيا منذ انسحابها من حيفا في 1948 صعوبة في اقامة علاقات طيبة مع اسرائيل. ومن الأسباب البديهية لذلك الذكريات المريرة عن هجمات الارهابيين الصهاينة على القوات البريطانية، خصوصاً تفجير فندق النبي داود في القدس. من الأسباب الأخرى موقف حكومات اسرائيل المتعاقبة من الفلسطينيين والجيران العرب. ولم تقم الملكة بزيارة اسرائيل حتى الآن. ولم يزرها رئيس حكومة بريطاني إلا في 1986 عندما استقبلت مرغريت ثاتشر. هذه العلاقات المتأرجحة دوماً على الحافة سقطت الى الهاوية في الأيام الأخيرة. هناك خلفية تاريخية بسيطة لهذه الأزمة التي فاجأت لندن. ذلك ان حزب العمال البريطاني ادعى دوما وجود قواسم مشتركة كثيرة مع حزب العمل الاسرائيلي، وبرر بذلك في أحيان كثيرة اغفال بريطانيا لمسؤولياتها تجاه الفلسطينيين. لكن الواقع ان الحزبين على طرفي نقيض، خصوصا منذ انشاء "حزب العمال الجديد". وكان حزب العمل الاسرائيلي في تشرين الأول أكتوبر الماضي انسحب من الحكومة الائتلافية، ووجد ارييل شارون في ذلك فرصة للمزيد من التحرك نحو اليمين. واذ لا اعتقد ان علاقة رئيس الوزراء توني بلير بشارون كانت وثيقة يوماً ما، لكنها الآن بالتأكيد وصلت الى مستواها الأسوأ. وقد نظر 10 داوننغ ستريت بقلق الى عنف اسرائيل المفرط في الضفة الغربية وغزة، وأيضاً الى التركيز الجديد على توسيع المستوطنات الاسرائيلية الغير شرعية. بعد ذلك شهدنا مقتل مسؤول اغاثة بريطاني يعمل في الأممالمتحدة على يد جيش اسرائيل، والموقف الرسمي الاسرائيلي غير المقنع تجاه الحدث. قادة حزب العمال الثلاثة السابقين على بلير كانوا مساندين أقوياء للفلسطينيين، لكن بلير، وأيضاً غوردن براون وزير المال والرجل الثاني في الحكومة، يؤيدان بشكل تام لجنة "أصدقاء اسرائيل" في "حزب العمال الجديد"، الذي يعتبر نفسه صديقاً مخلصاً الصهيونية. لكن مؤتمرات حزب العمال شهدت دوماً دعماً قوياً للفلسطينيين. وأخبر بلير المؤتمر الذي انعقد خريف السنة الماضية أنه سيستضيف شخصياًً في لندن محادثات للسلام في الشرق الأوسط، واستقبل المؤتمر القرار بحماس. لكن الفكرة تغيرت في الأسابيع التالية لتقود الى المؤتمر في لندن أخيراً حول اصلاح السلطة الفلسطينية. وبنهاية السنة الماضية عبّر شارون ووزير خارجيته بنيامين نتانياهو عن الغضب من صديقهم بلير. وشكا الاثنان من رفض بريطانيا بيع قطع غيار مهمة للمقاتلات الاسرائيلية، وان بلير دعا الرئيس بشّار الأسد الى لندن حيث التقى الملكة، وكذلك ما اعتبراه تدخلا من بلير في شؤون اسرائيل عندما دعا الزعيم الجديد لحزب العمل الاسرائيلي امران متسناع للتحادث في وايتهول. ثم جاء التفجيران الانتحاريان الأخيران في تل أبيب اللذان أديا الى مقتل 22 شخصا، ورفضت حكومة اسرائيل اثرهما السماح لستة وزراء فلسطينيين بالذهاب الى لندن للمشاركة في مؤتمر الاصلاح. وأثار القرار الاسرائيلي استغراب لندن واستنكارها، اذ كانت مهدت للمؤتمر بتنسيق وثيق مع الولاياتالمتحدة ليكون بمشاركتها مع ممثلين عن روسيا والاتحاد الأوروبي والأممالمتحدة. ولا شك ان هدف بلير، بموافقة وزارة الخارجية الأميركية، كان البرهنة بأن الخلاف العربي - الاسرائيلي يبقى قيد الاهتمام رغم تسليط الضوء على التحرك ضد العراق. وزاد من غضب بلير أن الأميركيين رفضوا التدخل في هذا الخلاف العلني بين الحليفتين الأقرب، فقد اكتفت الخارجية الأميركية ب"الترحيب" بالمؤتمر و"الأسف" لتغييرطبيعبته بسبب موقف اسرائيل. وكالم وزير الخارجية البريطاني جاك سترو نظيره نتانياهو، وكشفت وسائل الاعلام لاحقاً النبرة الحادة التي سادت الاتصال. فيما وجه بلير رسالة الى شارون يوضح فيها طبيعة المؤتمر ويطلب رفع الحظر عن الوزراء. ولم تبد اسرائيل اهتماماً بالرسالة. ولا شك ان بريطانيا واسرائيل ستحاولان اصلاح العلاقة بينهما خلال الأسابيع المقبلة، لأن لا مصلحة لهما في استمرار الخلاف فيما يتصاعد التوتر حول العراق. ويبدو أن الخلاف يبرهن على عدم اهتمام شارون بأي عملية للسلام في الشرق الأوسط، وأنه أفشل بفظاظته المعهودة محاولة دولية جادة لاصلاح أوضاع السلطة الفلسطينية. * سياسي بريطاني، مدير "مجلس تحسين التفاهم العربي - البريطاني" كابو.