وزير الخارجية الأميركي، المعتدل كولن باول، قال إن بعض الدول في هذا العالم يود "أن يصرف نظره عن المشكلة، والادعاء بأن لا وجود لها". أما المشكلة التي يعنيها الوزير الأميركي، فهي تلك العراقية، كما تراها الولاياتالمتحدة طبعا، وأما ذلك "البعض" الذي يشير إليه من دول العالم فهو من قبيل الغمز، الذي يكاد أن يكون صريحا إذا ما وُضع تصريح المسؤول الأميركي في إطاره الزمني والحدثي، من قناة كل من فرنساوألمانيا، البلدين الأوروبيين والحليفين الغربيين اللذين رفعا، خلال الآونة الأخيرة، من حدة اعتراضهما على الحرب المزمعة أو المحتملة أو المبرمجة ضد العراق. فالأولى لوّحت بإمكانية استخدامها حق الفيتو، ذلك الذي تحوز عليه كعضو دائم العضوية في مجلس الأمن، للحؤول دون صدور قرار الحرب، في حين تكاد تفصح الثانية، بأنها مُقرّة العزم على استخدام رئاستها لمجلس الأمن إياه، خلال شهر شباط فبراير المقبل، لبلوغ نفس ذلك الهدف. وقد ذكرت صحيفة "التايمز" اللندنية أن برلين تفكر في مطالبة رئيس المفتشين الدوليين بتقديم تقرير آخر عن أنشطة فريقه في الرابع عشر من الشهر المقبل، ما يعني أنها لا تعتبر التقرير الذي سيُقدم غدا الاثنين، بمثابة الخطوة التي تسبق بدء القتال، على ما هو رأي واشنطن وحليفتها لندن. بطبيعة الحال، من المستبعد أن يفلح اعتراض فرنساوألمانيا، ناهيك عن الصين وروسيا وسواها من القوى العالمية الأقل شأنا، في لجم آلة الحرب الأميركية، خصوصا أن هذه الأخيرة انتقلت من الإرادة إلى الفعل، فحشدت الجنود والمعدات، وبلغت نقطة اللاعودة، بحيث يلوح أن لا مجال لتجنب المواجهة سوى في حال بلوغ أهدافها من دون خوضها، أي بتنحي صدام حسين، ولجوئه إلى منفى ما، ونهاية نظامه، على ما يبدو أنه استراتيجية أو مسعى بعض دول الجوار الإقليمي. ثم أن الولاياتالمتحدة أعلنت، على أية حال، أنها لا ترى حاجة إلى العودة إلى مجلس الأمن، وأن القرار 1441، الذي أقر عمليات التفتيش، يفي، بمفرده، بغرض التدخل العسكري. وهي بذلك لا تخشى أن يعرقل الفرنسيون والألمان وسواهم، ما لا تفكر فيه أصلا. وهكذا، فإن أقصى ما قد تنجزه برلين وباريس على الصعيد العملي، من خلال مساعيهما تلك، هو تسمية الآحادية الأميركية باسمها، وحرمانها من كل تغطية. ذلك أنه إذا ما بدا أن ألمانياوفرنسا "تغضّان الطرف عن المشكلة وتدعيان عدم وجودها"، حسب التشخيص المهذب للوزير المعتدل كولن باول، فذلك لأنهما، وسواهما الكثير من الدول في هذا العالم، تريان المشكلة من نوع آخر وعلى صعيد آخر. أي أن ما يؤرّقهما هو السلطة في العالم، ومخاطر انفراد الولاياتالمتحدة بها. والحرب على العراق ليست إلا أحد تفاصيل تلك القضية وقد لا تعني إلا بصفتها التفصيلية تلك. فالولاياتالمتحدة ستشن، على الأرجح، تلك الحرب، سواء وافقت فرنساوألمانيا أم لم توافقا، وذلك ما تعلمانه علم اليقين. وما يشغلهما هو النصاب العالمي الذي ستفضي تلك الحرب إلى إرسائه، والذي يبدو أن ملامحه الأولى بدأت تلوح، حتى قبل حصول تلك المواجهة، من خلال ذلك الموقف الفرنسي-الألماني وسواه من المواقف. ذلك أن واشنطن، في ظل إدارتها الحالية، ومن خلال مقاربتها للأزمة العراقية، قد تكون بصدد التسريع في بروز تعددية قطبية، تتوزع محليا وإقليميا، تعذّر بروزها منذ أن وضعت الحرب الباردة أوزارها. وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفلد، وهو ليس باعتدال نظيره للخارجية ولا بتهذيبه، فهم الأمور على هذا النحو، ورد عليها بالشكل الذي يليق في نظره، إذ رأى في الموقف الألماني-الفرنسي سعيا إلى تأكيد قطب أوروبي في مواجهة الآحادية الأميركية وتنكب تفنيد ادعائه ذاك. وهو لذلك، لم يركز في رده على المسألة العراقية، ولم يحاول إقناع العاصمتين الأوروبيين الكبيرتين، بالخطر الذي يمثله صدام حسين ونظامه وامتلاكه المفترض لأسلحة الدمار الشامل، بل وصف البلدين المذكورين بأنهما يمثلان "أوروبا العجوز"، مؤكدا أن مركز ثقل القارة القديمة انتقل إلى شرقها. وذلك كلام قد يكون بمثابة الطرح الأولي، أو الإرهاص بالاستراتيجية التي تزمعها الولاياتالمتحدة في مواجهة نزوع أوروبا نحو الاستقلال عنها: الاستقواء بحلفائها الجدد في شرق القارة، وقد باتوا أكثر ولاء لها وأكثر حاجة إلى دعمها ومساعداتها، ضد حلفائها التاريخيين في غربها. أو استبدال حلفاء حقبة الحرب الباردة بحلفاء الحقبة التي تلتها، على الأقل من حيث امتياز علاقات الترابط ووثوقها. وبديهي أن مثل تلك المعركة تأسيسية، لا شأن لها بمآل الأزمة العراقية، إلا تذرعا وتوسلا آنيّيْن. حليف تقليدي آخر للولايات المتحدة، يوجد في تحركاته خلال الآونة الأخيرة ما من شأنه أن يلفت الانتباه، هو تركيا، التي بذلت خلال الأسابيع الأخيرة جهودا كبيرة من أجل تجنب الحرب، وإن من خلال السعي إلى تمكين الولاياتالمتحدة مما ترمي إليه من ورائها، أي تنحّي صدام حسين. وقد يكون من باب التسرع، أو إحلال الأماني محل الوقائع، توهم ذلك المسعى التركي، وما لازمه من توجه نحو الجوار المشرقي العربي بعد طول انقطاع عنه، من "المكاسب" الناجمة عن وصول "حزب العدالة والتنمية"، ذي التوجه الإسلامي، إلى سدة السلطة في أنقرة. إذ ما لا شك فيه أن تلك المقاربة التركية الجديدة، دواعيها استراتيجية لا إيديولوجية، وأنها ما كانت لتتبلور لولا مباركة المؤسسة العسكرية التركية، صاحبة السلطة الفعلية في البلاد، وربما بإيعاز منها. ذلك أن فراغا في النفوذ حصل في الشرق الأوسط، منذ نهاية الحرب الباردة، خصوصا خلال الآونة الأخيرة مع ما يبدو من انكفاء لبعض الأقطاب العرب، فوجدت أنقرة نفسها مدفوعة إلى ملئه، ليس بالضرورة لدواعٍ "إمبراطورية" متجددة على ما تخوف بعض المعلقين، بل لدواعٍ أمنية واستراتيجية ما عاد النصاب القائم حاليا، على صعيد المنطقة، قادرا على درء أخطارها. فهل هو قطب شرق أوسطي جديد بصدد البروز حول تركيا، مستفيدا من عدم أهلية إسرائيل، بالرغم من قوتها، ومن عزلة إيران الناجمة، من ناحية، عن إدراجها في "محور الشر"، ومن ناحية أخرى عن عجزها المتمادي عن حسم الصراع الدائر، منذ سنوات، داخل نظامها الحاكم، بين التيارين "الإصلاحي" و"المتشدد"؟ صحيح أن تركيا حليف موثوق للولايات المتحدة لكنها، بصفتها تلك تحديدا، تريد إشعار واشنطن بأولوياتها الإقليمية، التي قد لا تتماشى دوما وفي كل الحالات، مع أولويات القوة العظمى الوحيدة في العالم، وأنها قد تستقطب في ذلك مشاغل حلفاء آخرين لواشنطن على صعيد المنطقة. وإذا ما أضفنا إلى ذلك ظواهر لا علاقة لها بالأزمة العراقية، مثل انتخاب لولا في البرازيل، أكبر دول أميركا اللاتينية، وما يبدو من تكتل بدأ ينشأ حوله، ضاما عددا من البلدان التي تضيق ذرعا بالسيطرة الأميركية على تلك القارة، فإن في كل ذلك ما قد يرسم الملامح الأولية لنصاب عالمي جديد بصدد التشكل، قوامه تكتلات سياسية، وليس فقط اقتصادية كما كانت الحال خلال تسعينات القرن الماضي، يبدو أنها ساعية إلى إحلال التنوع في هذا العالم الذي تتهدده "الأمركة". أما مآل النظام العراقي فهو، حيال تلك التحولات، مجرد تفصيل. إذ أن النظام ذاك انتهى عمره "البيولوجي" على أية حال، وهو ما فهمه الجميع في ما عدا بعض نخبنا العربية.