ذلك هو التنازل الأقصى الذي يمكن للرئيس جورج بوش أن يقدّمه لأسرة الأمم: أن يذهب إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وأن يقف خطيبا أمام رؤساء دول وحكومات العالم، لا للتشاور معهم بشأن العراق، أو لنيل مصادقتهم، بل ليدلي أمامهم بما سبق أن صرح به مرارا وتكرارا خلال الآونة الأخيرة، وما ردده معه المحيطون به من صقور إدارته، دونالد رامسفلد وكوندوليسا رايس وسواهما، من أنه قد أقر العزم على ضرب العراق، وأنه فاعل لا محالة، فإن شاء العالم فأهلا وسهلا، وإن أبى فإلى الجحيم. جورج بوش الابن ذهب إذاً إلى الجمعية العامة مُبتزاً: صادقوا على ما أزمعه وستكون إرادة واشنطن هي إرادة العالم، أو أحجموا عن المصادقة، إن طاب لكم ذلك، وستكون إرادة واشنطن بديلا عن إرادة العالم، تجبّها وتحل محلها. وقد يكون الرئيس الأميركي قد أرغم نفسه إرغاماً وسلّط عليها عنفاً وهو يقرر مخاطبة الجمعية العامة للأمم المتحدة، إذ أن حاله في ذلك ربما كانت أقرب إلى حال أحد الوعاظ الطهرانيين يحضر احتفالا لبعض فرق عبدة الشيطان. فالرئيس بوش كاره لمثل تلك التجمعات والمحافل الدولية والكوزموبوليتية، وربما رأى فيها شرا مطلقا ووكرا للمتآمرين على الولاياتالمتحدة، أسوة في ذلك بقطاعات من ناخبيه من أصوليي أميركا العميقة. فهو ينفر من هيئات الأممالمتحدة، بحيث أنه ما عاد يثق حتى بمجلس الأمن، ذلك الذي كثيرا ما كان نظراؤه السابقون يتوسلونه لتسويغ بعض ما يقومون به، إن لم يكن دوما فأحيانا ولدى الحاجة، كما يضيق بكل هيئة دولية سواها، على ما دل عداؤه الشديد للمحكمة الجنائية الدولية، تلك التي لا يوجد بلد ديمقراطي واحد عدا الولاياتالمتحدة طبعا يخشى قيامها. هو إذاً نفور من طبيعة جِبلّية وإيديولوجية، أي لا عقلانية. وذلك ما قد يفصح عنه السجال الدائر حول ضرب العراق على أوضح نحو وعلى أجلى صورة. فذلك الإصرار على التحرك خارج مجلس الأمن لا يمكن تفسيره إلا بوجود مثل تلك المسبقات والمنطلقات الإيديولوجية، وإلا بقي لغزا محيرا. فغالبية الدول التي أبدت تحفظها عن سياسة الولاياتالمتحدة حيال العراق، لم تفعل ذلك حرصا على هذا البلد الأخير ونظامه، بل اعتراضا على الأحادية الأميركية. ويعتقد بأن الولاياتالمتحدة، لو سعت إلى مصادقة دول العالم، خصوصا من الأعضاء الدائمين في مجلس الأمن، لما ووجهت بصعوبات كبيرة وكأداء. وهي، على أية حال، تمتلك من وسائل الإقناع والضغط والترغيب ما من شأنه أن يمكّنها من تخطي تلك المصاعب بهذا القدر أو ذاك من اليسر، كما حدث أكثر من مرة في السابق. ففي ما عدا الدول العربية خصوصا ما كان منها في الجوار المباشر وإيران، والتي قد تتخوف من التبعات المحتملة لضرب العراق على استقرارها وربما على مستقبل وجودها ككيانات، سيما لمن يشعر منها بأنه قد يُستهدف في مرحلة لاحقة، ليس بين دول العالم، خصوصا الكبيرة منها، من يبدي حدبا على النظام العراقي أو مناصرة له. والأمر قد لا يتعدى، بالنسبة إلى بعضها، استثمارات وعقودا أبرمها مع بغداد خلال السنوات الأخيرة، ويود أن يطمئن على مصيرها، على ما هي الحال بالنسبة إلى فرنسا من خلال شركة توتال للتنقيب على النفط أو روسيا أو سواهما. أما الهاجس الأساسي للجميع، فهو الخشية من انقلاب واشنطن على بنية القرار الدولي والاستئثار بها، مع ما يعنيه ذلك من تهميش أو من إقصاء لبقية دول العالم عن حق المشاركة في صياغته أو في اتخاذه. والحال ان واشنطن عبرت عن تلك الوجهة بوضوح عندما أعلنت، قولا وسلوكا، أنها تحبذ التعاطي مع دول العالم على نحو ثنائي، خارج كل تكتل إقليمي أو أممي، على ما تبدى أثناء الحرب في أفغانستان. يومها صدّت، بأدب نسبي لا يكاد يخفي صلفها، بلدان حلف شمال الأطلسي عن مناصرتها، قائلة إنها قد تستعين بهذا الطرف أو ذاك عينيا وموضعيا، كلما دعت الحاجة. كما لازمها ذلك السلوك في مجمل مواقفها خلال السنة المنصرمة، حتى قمة الأرض الأخيرة، عندما امتنعت، على لسان وزير خارجيتها، الحمائمي المعتدل، كولن باول، عن إقرار كل وثيقة تتعلق بالبيئة أو بمحاربة الفقر تُلزمها دوليا، معلنة تبجيلها للحلول الثنائية، أو على الأصح الانفرادية، مع كل دولة على حدة. تبدو الوجهة التي تسير فيها الولاياتالمتحدة، إذاً، نحو مأسسة الوضع الذي نشأ في أعقاب الحرب الباردة، أمرا واقعا لا قانونا، والمتمثل في حيازة واشنطن على منزلة القوة العظمى الوحيدة في العالم، تستأثر بالسطوة وبالنفوذ الاقتصادي والعسكري، فالسياسي. فهي إذاً تبدو بصدد تحويل ذلك الوضع إلى نصاب دولي، أي بصدد ترجمة فرادتها تلك غير المسبوقة في التاريخ، إلى انفراد بمقدرات العالم، وبسلطة القرار فيه حربا وسلما، وفرض ذلك نصابا يحكم نظام الحياة الدولية. والطريق الملكية نحو تحقيق ذلك الهدف، هي بطبيعة الحال، تلك المتمثلة في تعطيل أو في إلغاء كل مؤسسات وهيئات التداول والتشاور واتخاذ القرار على الصعيد الدولي والجماعي، أي في إنهاء الحياة الدولية كما عهدناها منذ نهاية الحرب العالمية الثانية حتى الآن. بل ربما كان هذا الهاجس أو هذا الهدف أهم، في نظر الإدارة الأميركية الحالية، من مسألة إطاحة صدام حسين في حد ذاتها، طالما أنها، على ما سبقت الإشارة، أبدت من الحرص على التحرك أحاديا، أكثر مما أبدت من حرص على استدراج العالم، من خلال مؤسساته القائمة، إلى مناصرتها في ما تزمعه ضد ديكتاتور بغداد، فكأن الأمر الأخير هذا مجرد ذريعة لشيء آخر. بطبيعة الحال، كل ذلك لا يلغي بقية العوامل العديدة التي كثيرا ما أشار إليها المراقبون وتوقفوا عندها، من السعي إلى "تحرير" نفط العراق، ربما للحد من الاعتماد على مصادر أخرى للطاقة باتت واشنطن تنظر إليها بقلق، أو من إمعان في احتواء إيران، من خلال وضعها بين الكماشتين الأفغانية والعراقية بعد أن يستتب النفوذ الأميركي فيهما، أو من طلب للسيطرة على منطقتي النفط الشرق أوسطية والآسيوية الوسطى وفتحهما على بعضهما البعض، أو إعادة ترتيب شؤون الشرق الأوسط وربما إعادة صياغة كياناته، إلى غير ذلك من الأهداف التي لا شك في أنها ماثلة، أو قد تكون ماثلة، في ذهن الإدارة الأميركية. لكن ما يبقى في حكم المؤكد، إلى جانب كل ذلك أو بعضه وفضلا عنه، أن الولاياتالمتحدة، بمناسبة الحرب على العراق أو بذريعتها، أثارت صراعا كونيا حول السلطة على العالم، وأنها عازمة على الانتصار فيه. والمشكلة أن ذلك ليس بالأمر المتعذر عليها، وإن إلى حين وإلى أجل. فالمعارضون يشكلون كثرة، لكنها من طبيعية كمية بحتة، في حين أن قوة أميركا، في عزلتها وبالرغم من هذه العزلة، من طبيعة نوعية.