ما إن تأكد فوز المستشار الألماني غيرهارد شرودر في الانتخابات النيابية الأخيرة، حتى هرع إلى لندن يزور توني بلير، في خطوة قيل إن الهدف منها توسيط رئيس الحكومة البريطانية لدى واشنطن من أجل مصالحتها، في ما قد يكون إحدى أكثر المهمات عسراً تُناط بنزيل داونينغ ستريت. هذا إن افترضنا استعداده لأدائها. فالشرخ الذي أصاب العلاقات بين واشنطنوبرلين خلال حملة الانتخابات الألمانية الأخيرة ليس مما يتيسر تداركه أو محو آثاره بسرعة، وذلك ما يبدو أن الأميركيين يعونه تماما، على ما يُستشف من تصريحات أدلى بها الناطق باسم البيت الأبيض أري فلايتشر، أو من سلوك وزير الدفاع دونالد رامسفيلد، الذي امتنع، خلال الاجتماع الأخير لبلدان حلف شمال الأطلسي في وارسو، عن ملاقاة نظيره الألماني. واشنطن لا تتعامل إذاً مع الأمر على أنه مجرد أزمة عابرة، ناتجة عن جموح لفظي كثيرا ما يصاحب السجالات الانتخابية أو عن رغبة في دغدغة مشاعر رأي عام محلي، يتحفظ عن السياسة الخارجية للولايات المتحدة، وهو بالفعل ليس كذلك، بل هو تحول من طبيعة أعمق. ومما قد يؤكد ذلك أن سعي برلين إلى المصالحة لم يتخذ هيئة العودة إلى "بيت الطاعة"، على ما كان الجانب الأميركي يأمل ربما، بل أن ألمانيا لا زالت تبدي إصرارا على موقفها الرافض للحرب التي تزمعها إدارة الرئيس بوش ضد العراق، حتى في صورة صدور قرار عن مجلس الأمن يجيز تلك الحرب ويقرها. وهكذا، فإن موقف حكومة المستشار شرودر ذاك لم يكن فقط مطية لتحقيق الفوز في الانتخابات ولدرء هزيمة كانت تبدو، قبل أشهر قليلة، في نظر العديدين، في حكم اليقين، على ما استنتج بعض المراقبين متسرعا، بل ان الانتخابات تلك كانت فرصة للإفصاح عن توجه وعن موقع جديدين باتت تراهما ألمانيا لنفسها، على الصعيدين العالمي والأوروبي، من خلال العمل على بلورة سياسة خارجية مستقلة عن الحليف-الحامي الأميركي. أي أن الأمر يتعلق، بكلمة واحدة، بما لا يقل عن لبنة جديدة، وأساسية، تضعها ألمانيا في مسار استكمالها سيادتها، تلك التي فقدتها بالكامل إثر هزيمة نظامها النازي في الحرب العالمية الثانية، وما انفكت، منذ نهاية الحرب الباردة، عاملة على استردادها خطوة خطوة وشيئا فشيئا. ولعل ذلك ما يفسر تلك المكانة الاستثنائية التي حظي بها الموضوع العراقي في الانتخابات الألمانية الأخيرة. إذ من المعلوم بأن قضايا السياسة الخارجية نادرا ما تستحوذ على اهتمام المقترعين في الديموقراطيات الغربية، ناهيك عن أن تكون عاملا حاسما ومحددا في الفصل بين المرشحين. بل أن الأولوية غالبا ما تكون من نصيب المشاغل المحلية، الاقتصادية والاجتماعية. غير أن الانتخابات الألمانية الأخيرة لم تشذ، على الأرجح، عن هذه "القاعدة"، وإن أوحى ظاهر الأمور بغير ذلك، حيث أن الموضوع العراقي المذكور، إذ تحول لدى قطاع واسع من الناخبين الألمان إلى مناسبة لتأكيد الذات الوطنية في مواجهة السطوة الأميركية، اتخذ بعدا داخليا أكيدا، حتى أنه قد لا يكون من المبالغة القول إنه كان أكثر العوامل فعلا في فوز ائتلاف حزبي غيرهارد شرودر، الاشتراكي الديموقراطي، ويوشكا فيشر، حزب الخضر. بل يمكن القول إن الناخبين أبدوا قدرة على التمييز لافتة، حيث وجهوا، من خلال صناديق الاقتراع، رسالة مركّبة، تجمع بين محاسبة الأغلبية التي حكمت خلال السنوات الأربع الماضية على قصورها، خصوصا على إخفاقها في مجابهة البطالة وفي الحؤول دون استشرائها، وبين التجديد لنفس تلك الأغلبية على أساس محضها الثقة في ما يتعلق بالدفاع عن تمايز موقع ألمانيا في مواجهة الحليف الأميركي. وذلك ما قد يعبر عنه على نحو جلي التحول الذي أحدثه الناخبون على ميزان القوة داخل الائتلاف الاشتراكي-البيئوي الحاكم، فالائتلاف ذاك فاز، وإن بأغلبية طفيفة، لكن الفوز لم يتحقق إلا بفضل تزايد نسبة الأصوات، وبالتالي عدد المقاعد، التي كانت من نصيب الخضر، في حين مُني الحزب الاشتراكي الديموقراطي بتراجع ملحوظ، وهو ما يمكن ترجمته بالقول إن الناخبين عاقبوا الحكومة، من خلال حزب رئيسها، على ما فشلت في تحقيقه، لكنهم مكّنوها من الاستمرار في السلطة، من خلال ترجيح كفة الخضر، أولئك الذين يمثلون تاريخيا، أي منذ أن دخلوا الحياة السياسية في بداية الثمانينات وهي السنوات الأخيرة للحرب الباردة، النزعة السلمية، تلك التي كثيرا ما تعني في ألمانيا، موقف التحفظ والانتقاد حيال الولاياتالمتحدة. كل ذلك للقول إن الحكومة الألمانية الجديدة، أو على الأصح المتجددة، ربما اكتسبت القسط الأوفر من شرعيتها الانتخابية من موقفها حيال الحرب المزمعة ضد العراق، أي بعبارة أدق، من اعتراضها على الغلبة الأميركية، وفق تلك الدلالة الداخلية التي سبقت الإشارة إليها، وأن الواقعة تلك ستظل ماثلة أمام عينيها خلال الفترة المقبلة من عمرها، وعاملا محددا في سلوكها على الصعيد الدولي، وهو ما يُتوقع أن يكون له أثر بالغ، إن في ما يتعلق بالعلاقة مع الولاياتالمتحدة، تلك الموروثة عن الوضع الناشئ في أعقاب الحرب العالمية الأخيرة، والتي يُتوقع من ألمانيا أن تتمادى في السعي إلى إعادة صياغتها، والانتقال بها من طور التبعية الناجزة نحو قدر أكبر من التوازن ومن الندية، وإن النسبية، أو في ما يتعلق بإعادة توزيع النفوذ داخل الاتحاد الأوروبي وبين بلدانه. والأمران متلازمان حتما، إما تصوراً وإرادةً استراتيجيين، أو بفعل قوة الأشياء وإملاءات الواقع. فألمانيا هي، إلى حد كبير، الاتحاد الأوروبي. فهي القوة الاقتصادية الراجحة في أوروبا الغربية إذ أنها صاحبة ثالث اقتصاد في العالم بعد الولاياتالمتحدة واليابان، أقلها تلك القارية، أي في ما عدا بريطانيا. وهي تحتل منها موقع القلب، كما أنها صاحبة الوزن الديموغرافي الأكبر، هذا ناهيك عن امتداد تأثيرها، عرقيا وثقافيا واقتصاديا، في وسط أوروبا، أي في ذلك الفضاء الممتد من شمال إيطاليا إلى النمسا إلى تشيخيا وما وراءها. وهكذا، وإذا كان الاتحاد الأوروبي يتماهى، وإن إلى حد، مع قطبه الأساسي ممثلا في ألمانيا، فإن ذلك التماهي ربما كان العنصر الذي أدى إلى تعطيل دوره السياسي، بقدر تعطل دور موطن غوته وبيسمارك. حتى أن ذلك القول الشائع، من أن "أوروبا عملاق اقتصادي وقزم سياسي"، هو بالتحديد وبالأساس الوصف الذي انطبق على ألمانيا حتى الآن، وربما صبغ، انطلاقا منها، الأداء الأوروبي على نحو أعم. لكل تلك الأسباب، فإن تفعيل دور ألمانيا، واستعادتها حضورها السياسي، سيكون تفعيلا للدور الأوروبي، أو على الأقل إيذانا بإعادة اصطفاف للقوى داخل القارة القديمة، ما قد يمكّن هذه الأخيرة من الانتظام، إن تحالفا أو اعتراضا، حول قطب فاعل، بعد أن كانت "تنتظم"، عمليا، حول الخمول الألماني، لا تنجح في تخطّيه وفي التحرر من أثقاله. هكذا، ومع هذه الحيوية الألمانية المستعادة، لا شك في أن تحولات كبرى تنتظر أوروبا، ومن ورائها العالم، وإن كان من الصعب التكهن بتطوراتها مستقبلا. إذ أن هناك أسئلة أساسية لا يزال من العسير الإجابة عنها، كما أنها، على أية حال، تندرج في المدى البعيد: أي مدى يمكن ألمانيا أن تبلغه في تمردها على الولاياتالمتحدة؟ وأي أوروبا يمكنها أن تقوم تأسيساً على ذلك الدور الألماني المحتمل؟ هل يصبح الاتحاد الأوروبي، ذو الصبغة الاقتصادية في المقام الأول حتى الآن، اتحادا سياسيا حول ألمانيا؟ أم هل تراه سيتحول مجالا لاستقطاب حاد، بين نزعة "قارّية"، تجسدها برلين، وأخرى "أطلسية"، تمثلها لندن؟ وما موقع فرنسا من كل ذلك؟ يبقى أن هذه الانتخابات الألمانية الأخيرة ربما شكلت لحظة فارقة في النصاب الدولي القائم حاليا، وأنها، لذلك، مما يجدر التنبه إلى تفاعلاته وإلى تداعياته المحتلمة... إذ هو معمار لعالم ربما كان في صدد التغير تحت أعيننا.