النظام الحاكم في العراق ليس مدعوا إلى الامتثال، بل إلى الزوال. الكل يعلم ذلك، والبعض يعمل لذلك . لكن الجميع، تقريباً، يتصرف على عكس ذلك، وكأن المسألة مسألة تفتيش ومفتشين دوليين، وكأنه يكفي أن يقوم أولئك المفتشون بمهمتهم على أكمل وجه، أي دون أن تعرقلها السلطات العراقية، حتى تبرّىء هذه الأخيرة ذمتها من تهمة امتلاك أسلحة الدمار الشامل أو السعي إلى امتلاكها، وحتى ينتهي كل شيء بسلام، وحتى يزول شبح الحرب من الأفق. التفتيش الدولي مسرحية، هدفها الإيهام أو التوهم بأن هناك حياة دولية، تحكمها أعراف وقوانين وآليات جماعية لا زالت تعمل. والكل ضالع بدوره في تلك المسرحية، حتى من ارتضوا لأنفسهم فيها موقعا دون موقع الكومبارس، ونعني بطبيعة الحال الدول العربية. وهكذا، يرحب الحكم العراقي بالمفتشين الدوليين، ويشيد بدورهم، ويفتح لهم حتى تلك القصور الرئاسية التي كانت في نظره آخر معاقل سيادةٍ سبق ان استُبيحت على أكثر من صعيد، منذ هزيمته في "أم معاركه". وهو في هذا يتوهّم، أو يعمل على إيهام نفسه، بأن المشكلة، كل المشكلة، إنما تنحصر في شبهات حول سياساته، سيبددها حسن استعداده، لا في وجوده ذاته. أما المعترضون على الأحادية الأميركية، من فرنسا ومن صين ومن روسيا وسواها، فقد وجدت في صدور القرار 1441، ما يكفيها عناء المناكفة أو الاستمرار فيها. أسمعت صوتها، وربما ضمنت بعض مصالحها أو تلقت تطمينات بشأنها، وتصورت، ربما، أنها نجحت في تدجين جموح الأحادية الأميركية أو في ترشيده، في حين أنها لم تفعل في نهاية مطافٍ قد يتضح لها قريبا، غير إسباغ الشرعية عليها. وأما الدول العربية، فقنعت من كل ذلك بالغياب وبالانزواء وكأن الأمر لا يعني منطقتها. فكل احتمالات تلك المعضلة العراقية محرجة بالنسبة إليها: الجهر بالوقوف إلى جانب الولاياتالمتحدة، دونه مخاوف كثيرة داخلية أو من طبيعة "إيديولوجية". ثم أن النظام الحاكم في العراق، مرعب في بقائه، وربما كان مرعبا أكثر في زواله. ثم ماذا عن تلك "الديموقراطية" التي تعد الولاياتالمتحدة، بل تتوعد، في نظر أنظمتنا، بإرسائها في بلاد الرافدين؟ وهل تريدها أن تكون نموذجا يُحتذى؟ ومن قبل من وكيف؟ وبهذا النصاب القائم أو من دونه وباستبداله؟ حيال كل تلك الأسئلة والهواجس المحرجة، تشكل مسرحية التفتيش مخرجا. صحيح أنها لا تحل إشكالا ولا تهدّىء روعا، لكنها تؤجل لحظة الحقيقة، وإن إلى حين… هو تأجيل للتأجيل، تأجيل لذاته، وليس مهلة للتفكير أو لامتلاك زمام المبادرة. لذلك، فإن سؤال "اليوم التالي" ذلك الذي يوجهه المعترضون على سياسة الولاياتالمتحدة حيال العراق، ربما كان مضحكا على لسان من يوجهونه من باب الانتقاد لتسرع واشنطن نحو الحلول القصوى، أي العسكرية. الولاياتالمتحدة تعلم ما الذي ستفعله في "اليوم التالي" لإسقاط النظام العراقي، أو هي على الأقل تناقش سيناريوهاته: تسعى إلى لمّ شمل المعارضة العراقية، أو تفكر في تعيين حاكم عسكري أميركي، ضربا من مندوب سام جديد، قد توفر له غطاء دوليا وقد لا تفعل، وما إلى ذلك من التصورات التي ربما تضمنتها أجنداتها المعلنة أو الخفية. ولكن ماذا عن المعترضين وعن تصورهم لذلك "اليوم التالي" العتيد؟ أي ماذا بعد نهاية مهمة المفتشين الدوليين، مع افتراض أن تنتهي مهمتهم تلك إلى ما يرضي "الإرادة الدولية" ويلبي مطالبها؟ هل سيصار إلى إعادة تأهيل النظام العراقي، كما هو، بعد أن يكون المفتشون قد برّأوا ساحته وشهدوا بخلو البلاد من أسلحة الدمار الشامل، وإلى إعادة إدراجه في الحياة الدولية؟ وكيف يمكن لذلك أن يجري؟ وهل أن مشكلة النظام العراقي، داخليا وإقليميا، تنحصر في الأسلحة تلك أم تتعداها وتتخطاها؟ ثم كيف يمكن ترميم سيادة العراق مع بقاء نظامه الحالي؟ تلك بعض من أسئلة "اليوم التالي" التي لا يمتلك أولئك الذين جعلوا من مهمة المفتشين الدوليين درعهم الوحيدة في مواجهة الأحادية الأميركية أثراً لتصور أو لجواب. وتلك هي المشكلة مع مسرحية التفتيش الدولي. انها إذ توهم بوجود حياة دولية، جماعية أو شبه إجماعية، تتستر على أمر أساسي، وتحول دون تسمية الأشياء بمسمياتها، أو "دون أن نسمي القط قطّا" على ما تقول عبارة فرنسية. ذلك أنه إذا ما كان القرار 1441، قد لجم جموح الولاياتالمتحدة نحو خوض حربها ضد العراق ومكّن العالم من أن يقول رأيه في الموضوع، على افتراض أن ذلك صحيح، إلا أن الحقيقة أن الحرب تلك ليست إلا الشجرة التي تخفي الغابة. والغابة هي هذه: أن واشنطن، بالقرار 1441 أو من دونه، بصدد الانفراد بإعادة صياغة النصاب الاستراتيجي العالمي، ذلك المدعو للحلول محل ما كان قائما إبان الحرب الباردة، وأنها بصدد جعل منطقة الشرق الأوسط، أو بتحديد أكثر منطقة الخليج، مرتكز تلك المنظومة الاستراتيجية الجديدة ولبّها، كما كان حال وسط أوروبا، وتخصيصا ألمانيا، طوال حقبة الحرب الباردة. وهكذا، أعادت الولاياتالمتحدة، في حمأة تلك الأزمة العراقية، صياغة انتشارها الاستراتيجي، وأدرجته في المدى الطويل، أو على الأقل المتوسط. وجودها العسكري في إمارة قطر، تلك التي باتت منذ 11 أيلول سبتمبر مركز ثقل ذلك الوجود، "تمأسس" من خلال الاتفاقية التي وقعها مؤخرا في الدوحة وزير الدفاع الأميركي دونالد رامسفيلد مع وزير الخارجية القطري، علما بأن مدى تلك الاتفاقية يمتد إلى عشرين عاما، كما كشفت "الحياة" قبل أيام. أما الكويت، فباتت القواعد الأميركية تغطي ثلث مساحتها على ما ذكرت صحيفة أميركية. وربما كانت عملية إعادة الانتشار الاستراتيجي تلك، من نقل معدات وإقامة منشآت، تتطلب توتيرا لذلك الملف العراقي الذي ظل خامدا، على نحو مأسوي في ظل ذلك الحظر القاسي طيلة نحو العقد من الزمن، بذريعة وجود تواطؤ بين بغداد و"القاعدة" لم تتم البرهنة عليه، أو بذريعة نزع أسلحة الدمار الشامل، تلك التي لا يعتقد أن العراق، خصوصا بعد هزيمته في حرب الخليج الثانية، قد بلغ فيها شأوا كذلك الذي بلغته كوريا الشمالية، مثلا لا حصرا. موازاةً لذلك، ودائما بذريعة العراق، "رهّفت" الولاياتالمتحدة تلك "العقيدة العسكرية" التي سبق أن أعلنت عنها قبل أشهر، بأن أعلنت الإدارة الأميركية في الأيام الأخيرة، بأنها سترد بقوة، لا تستثني "أي خيار"، في صورة تعرضها أو تعرض قواتها العاملة في الخارج أو تعرض حلفائها، إلى هجوم "بيولوجي أو كيماوي أو إشعاعي أو نووي". والإنذار موجه إلى العراق طبعا، لكن المراقبين والمحللين، الأميركيين قبل سواهم، رأوا فيه تأكيدا بمثابة المبدأ العام، يثري ذلك الذي كانت طرحته "الحرب الاستباقية" ويحدده. والحرب الاستباقية هذه، معطوفة على ذلك المبدأ، تؤشر على ذلك التحول في مفهوم الردع الذي يواكب إعادة الانتشار الإستراتيجي الأميركي، وهو ردع لم يعد دفاعيا، كما كان شأنه أيام الحرب الباردة، يكتسب مصداقيته من قدرة الطرف الثاني على الردع النووي، بل بات هجوميا مُبادِرا. الولاياتالمتحدة تكاد أن تفرغ من إنشاء ذلك النصاب الاستراتيجي الجديد، بأحادية كاملة، قد لا تلام عليها في نهاية المطاف، لأن المعترضين عليها لا يشكلون في مواجهتها لا قوة مادية ولا قوة اقتراح، ويكتفون، في العمق، بمطالبتها بالتحلّي بالإيثار… وهم في انتظار ذلك، يتلهون بفريق التفتيش الدولي.