نجحت الجهود السورية في تهدئة الخلافات بين رئىسي الجمهورية اللبنانية اميل لحود والحكومة رفيق الحريري، وآخرها الرسالة الواضحة التي نقلها اليهما والى سائر القيادات الرئىسية، رئيس شعبة الأمن السياسي في سورية اللواء الركن غازي كنعان الثلثاء الماضي. والدليل ان كلاً منهما حرص خلال الأيام الثلاثة الماضية على اثبات تقديره لثقل الظروف الاقليمية الضاغطة التي توجب التهدئة في تصريحات علنية غلّبت الدعوة الى لملمة الصفوف والتضامن لدرء الانعكاسات السلبية المحتملة على لبنان من جراء شبح الحرب الاميركية على العراق والحرب الاسرائىلية المستمرة على الفلسطينيين. وإذا كانت التهدئة تعني وضع القضايا الخلافية، على اهميتها جانباًَ، فإن بعض هذه المواضيع لا يحتمل التأجيل ويتطلب تفاهماً عليه. الاهتمامات اليومية للقيادة السورية، بكمية لا تحصى من التفاصيل الاقليمية المتصلة بالعلاقة مع العراق وتركيا وسائر دول الجوار العراقي، وفلسطين، والولايات المتحدة، ومجلس الأمن، واحتمالات الحرب ضد العراق... الخ، هي التي تفسر قول المسؤولين السوريين الذين زاروا بيروت لكبار المسؤولين اللبنانيين، ان "لا وقت لدينا للالتهاء بالوضع اللبناني". فكل واحد من هذه التفاصيل الاقليمية، يشكل في حد ذاته قضية كبرى، قياساً الى التفاصيل اللبنانية، التي يمكن ان يعتبرها اللبنانيون وربما عن حق مهمة. وإذا كان الظرف الاقليمي يضع في الدرج ملفات جوهرية من نوع الخلاف على الصلاحيات بين لحود والحريري، ودور مجلس الوزراء، والعلاقة مع المعارضة المسيحية والاعلام والقضاء والموقف اللبناني من الوضع الاقليمي، فإن تجاوز البت فيها وبما يتفرع عنها يحتمل التأجيل عبر سياسة "ربط النزاع" في شأنها، "وتدوير الزوايا" من الرئىسين حولها. الا ان ثمة ملفين يبدوان داهمين ويصعب تجاهلهما في الاشهر، بل في الاسابيع، القليلة المقبلة، هما ملف الخصخصة، اولاً، وملف التغيير الحكومي، ثانياً، الذي نُصح المسؤولون اللبنانيون بعدم الخوض فيه في انتظار الانتهاء من مناقشة الموازنة، والى ان يتضح الوضع الاقليمي. لكن صورة الحكومة المقبلة باتت هي الاخرى مرتبطة بالرؤية المقبلة لأركان الدولة اللبنانية حيال خصخصة عدد من القطاعات، بعدما برزت مؤشرات سياسية الى ان قوى سياسية عدة مع العودة عن هذا الخيار، على رغم موافقة غالبيتها عليه سواء من خلال نيل الحكومة الحالية الثقة النيابية على اساس انه ورد في بيانها الوزاري، ومن خلال تشكيل المجلس الأعلى للخصخصة بموافقة جميع اركان السلطة ومن خلال برنامج عمل لبنان الى مؤتمر "باريس -2" الذي التزمت حكومة الرئيس الحريري تنفيذه ونالت تسهيلات مالية بناء عليه. وهو يشمل الخصخصة كأحد مرتكزات سياسة اصلاح مالية الدولة. ومن مؤشرات تراجع قوى رئىسة عن خيار الخصخصة، يحتمل ان تضع هذا الخيار في مهب الريح يمكن ذكر الآتي: 1- الخلاف على ملف الهاتف الخلوي وعائداته. وهو يضع رئيس الجمهورية في خانة ترجيح ادارة الدولة لهذا القطاع، بدل بيعه، كما يظهر من توجه وزير الاتصالات جان لوي قرداحي، المحسوب عليه، على رغم ان لحود ما زال يبقي الباب مفتوحاً لخصخصته، في موقفه الرسمي. 2- عودة رئىس "اللقاء النيابي الديموقراطي" وليد جنبلاط عن موافقته على الخصخصة وقراره التصويت ضدها في البرلمان، في القطاعات كافة. 3- اشارة رئيس المجلس النيابي نبيه بري، الى ان مجلس النواب سيناقش مشاريع الخصخصة بدقة، والى ان خصخصة قطاع المياه مسألة سياسية ووطنية مرتبطة بملف المياه ككل مع اسرائىل. واذا اضيف الى مواقف هذه القوى الثلاث التي لها كتل نيابية، لها ثقلها او نواب موالون في البرلمان، موقف كتلة "حزب الله"، غير المتحمس لهذا الخيار والذي يترك نافذة صغيرة تقضي بمناقشة ملف كل قطاع على حدة، فإن اكثرية نيابية قد ترتسم في مواجهة هذا الخيار. ويقول مسؤول بارز ل"الحياة" انه يجب عدم الاستهانة بتراجع هذا الخيار، خصوصاً ان نصائح دمشق كانت معالجة الملفات الخلافية "بالحوار المباشر والتنسيق والتعاون" وانها دعت الى اخذ ملاحظات لحود في الاعتبار في بعض ملفات الخصخصة، اذا كانت لمصلحة الوضع المالي للدولة اللبنانية. وفي المقابل، فإن الرئىس الحريري ضد العودة عن هذا الخيار، نظراً الى انه ركن من اركان خطته المالية - الاقتصادية، ومن التزامات لبنان امام شركائه في "باريس -2"، ومن حساباته لخفض خدمة الدين وأصول الدين، وانه حدد مواعيد تقريبية لنقل كل من قطاعات الخلوي والهاتف الثابت وجزء من الكهرباء والمياه وغيرها في ورقة الحكومة الى اجتماع "باريس -2"، فضلاً عن ان تقرير صندوق النقد الدولي الذي يفترض ان تضعه بعثة منه تزور بيروت اواخر آذار مارس المقبل، يفترض ان يشمل مدى التقدم في اجراءات الخصخصة. وهو تقرير تتوقف عليه مدى مساهمة دول اخرى في تقديم التسهيلات المالية للحكومة، إضافة الى الدول التي سبق ان قدمت هذه التسهيلات لاستبدال جزء من الدين اللبناني المرتفع الفائدة ولآجال قصيرة، بآخر آجاله طويلة وبفائدة مخفوضة. بل ان المحيطين بالحريري يعتبرون ان العودة عن خيار الخصخصة، سيسبب "مشكلة كبرى" في المعالجات المتبعة، وان رئيس الحكومة ليس في وارد العودة عن هذا الخيار لئلا يطيح ايجابيات ظهرت في الوضع الاقتصادي قبل "باريس -2" وبعده، في المرحلة المقبلة، وبالتالي يطيح آلية "باريس -2" نفسه. ويتخوف المسؤول البارز نفسه من ان يبقى التفاهم على هذا الملف معلقاً في وقت يحتاج الأمر الى قرار سياسي في هذا الاتجاه او ذاك، يحسم سياسة الدولة اللبنانية ككل، بدلاً من ان يبقى عرضة لتجاذب سياسي مصدره التنافس على الاحجام داخل السلطة والصلاحيات. ويسأل بعض المراقبين في هذا السياق، هل ان دمشق ستتدخل مرة اخرى لفض النزاع حول هذا الملف الداهم في غمرة انشغالها الاقليمي، لأنه مرتبط بالحفاظ على الاستقرار السياسي والاقتصادي للأوضاع ام انها ستتركه للرئيسين، وسائر القيادات السياسية المعنية حتى اذا عجزت هذه عن التفاهم والتعاون قامت بمعالجته بالحوار المباشر؟ المسؤول البارز متشائم بامكان حصول هذا التفاهم، الذي يحتاج الى إعادة صياغة سياسية للرؤية الاقتصادية من جانب أطراف السلطة والحكم في لبنان، قبل البحث في تشكيل الحكومة الجديدة، لتأتي وفقاً لهذه الصياغة.