أميل إلى الاتفاق مع رأي ناشىء في الغرب عموماً وفي أميركا خصوصاً، يعتقد أصحابه أن النخبة الحاكمة في أميركا - أي نخبة صنع القرار - المحيطة بالرئيس جورج بوش بدأت تفقد بعض هيمنتها أو قوتها. ففي عديد من نواحي صنع القرار في البيت الأبيض اتضحت علامات تشير إلى أن التيار "الصقوري" داخل هذه النخبة لم يعد يتحكم في مسيرة السياسات والقرارات بالدرجة نفسها التي كان يتحكم فيها منذ سنة أو يزيد. صارت بعض الخلافات داخل هذه النخبة أكثر وضوحاً، وتغيرت لهجة الخطاب السياسي الأعلى. هي اليوم أقل تشدداً مما كانت عليه. اشتد ساعد المعتدلين في أجهزة البحث المتخصصة ومراكزها وعلا صوتهم. ازداد الارتباك في السياسة الخارجية الأميركية، وظهرت بوادر إعادة لملمة ما انحرف عن الخط العام وما لم يحقق الإنجاز المطلوب من هذه السياسات. لا أستبعد أن هناك عند القمة الأميركية من اكتشف أن مكانة أميركا الدولية لم تعد تحظى بالاحترام نفسه نتيجة سياسات التشدد والتطرف والارتباك. أظن أنه اكتُشف أيضاً أن شعبية أميركا في الخارج انخفضت إلى حدودٍ دنيا تتجاوز انحطاط شعبيتها قبل أحداث 11 أيلول سبتمبر. فالتدهور لم يعد يقتصر على أقاليم الخضوع دائماً بل تعداها إلى أقاليم البؤس وأقاليم اليأس حتى الأقاليم التي امتد إليه التدهور. يؤكد هذه المؤشرات ما ذهب إليه بعض أهم مقالات لصناع رأي أميركيين وتصريحاتهم، وخاصة في عدد من مراكز التفكير الرئيسية من أن السياسة الأميركية الراهنة هي الأكثر جاذبية لمشاعر الكراهية في الخارج. الغضب الذي شاهدناه على شاشات التلفزيون يعمّ شوارع مدن كوريا الجنوبية يدل على أن شيئاً خطيراً تسببت فيه لهجة الغطرسة التي سادت الخطاب السياسي الأميركي، وتميز بها خصوصاً في الفترات الأخيرة الخطاب العسكري الأميركي وهو الأكثر تأثيراً في المسألة الكورية عموماً. ونحن - في الشرق الأوسط وفي المنطقة العربية تحديداً - نستطيع أن نتفهم أكثر من غيرنا سلوك الكوريين وأسباب النقمة المتزايدة في الشارع الإندونيسي والماليزي والفليبيني وفي سائر دول أميركا اللاتينية. لا أعني موقف أميركا من الصراع العربي الإسرائيلي، لكني أقصد بالتحديد لهجة الناطق الأميركي وأسلوب الديبلوماسية الأميركية الجديدة التي كلف بانتهاجه كل الديبلوماسيين الأميركيين في الخارج، وهو أسلوب يحض على فرض الرأي الأميركي بالكلمة الثقيلة والفجة أحياناً، وبالتدخل الصريح والمباشر في أدق شؤون الدول الأخرى. ويسعى هذا الأسلوب الجديد، بين أشياء أخرى، إلى كسر احتكار النظام الحاكم أو السلطة الحاكمة في أي دولة عربية وإسلامية للرأي العام. تريد واشنطن أن يسمع الشارع العربي والإسلامي رأياً آخر يصل إليه بغير تجميل أو لباقة. إنه رأي الدولة والأنظمة التي تريد الحرية وحرية التعبير السلام لكل شعوب العالم. يلاحظ ثالثاً أن المجتمع الأميركي يتصرف كما لو كان قد بدأ يفيق من صدمة 11 أيلول. عاد الشعب الأميركي، أو قطاعات كثيرة فيه، إلى مساراته المعتادة ليسلكها بعفوية ملحوظة. يقول الأصدقاء في أميركا إن الأميركي العادي رغم كل إجراءات الأمن المبالغ فيها والقمع أحياناً، ورغم الجو البوليسي الذي لم تتعود عليه أميركا، ورغم الإعلام الرسمي الذي يتعمد إثارة شيء كثير أو قليل من الرعب في الشارع الأميركي، رغم كل هذا عاد المواطن الأميركي يسلك مسالكه المألوفة، ويرفض التوقف طويلاً لمراعاة توجيهات السلطة كما فعل خلال شهور طويلة بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر. أظن أن الأميركيين الذين يتفوقون وبحق على شعوب أخرى من حيث قدرتهم الفائقة على التحول بسرعة وبراغماتية مطلقة لتحقيق مصالحهم الآنية يترددون في قبول مفاهيم وسياسات أيديولوجية بشرت بها القوى المتشددة، بخاصة تلك التي انحرفت بشدة عن الخط الأيديولوجي العام في الولاياتالمتحدة. تكررت إشارات توحي بأن الأصولية الدينية وبعض تيارات التطرف في كثير من الولايات الجنوبية تنحسر فاعليتها تحت ضغوط وتطورات كثيرة. ففي الولاياتالمتحدة كما في مناطق أخرى من العالم انكشفت فرق التطرف بكل أنواعها وسلطت الأضواء عليها كاشفة بشاعة التشوهات في فكرها وعنصرية الطموحات في أعماقها. ولا عجب أن نقرأ هذه الأيام لمعلقين أميركيين نقاشات عن جدلية الإرهاب والتطرف في العلاقات بين أميركا والعالم الخارجي. فالحرب ضد الإرهاب خلقت وعياً جديداً لدى الشعب الأميركي جعله يعرف أكثر عن المتطرفين في صفوفه وأرشدته إلى خطورة ما ارتكبوه حتى الآن في حق مبادئ هذه الأمة ودستورها ومستقبلها. هناك خوف حقيقي من أنه لو تُركت هذه القوى تنعم بحماية النخبة الحاكمة وتتبادل معها التأثير في عملية صنع مستقبل الولاياتالمتحدة الأميركية، فإن كارثة محققة ستحيق بالولاياتالمتحدة في وقت أقرب كثيراً مما يتنبأ بعض المتشائمين. وكان من نتيجة هذه الجدلية في العلاقة بين قوى التطرف الأميركي وأعمال التطرف الإرهابي القادم من الخارج أن انفضحت "إرهابيات" اعتنقتها ومارستها أجهزة الأمن الأميركية. ومن خلال ملاحظاتي في الآونة الأخيرة صرت أعتقد أن هذه الأجهزة فقدت جانباً كبيراً من ثقة الشعب الأميركي بها، بخاصة بعد رفض هنري كيسنجر قبول مهمة التحقيق في أداء هذه الأجهزة قبل 11 أيلول، وإن اختلفت أسباب رفض كيسنجر وأسباب انهيار ثقة الشعب في هذه الأجهزة وانكشاف المحافظين الجدد ودورهم في الهيمنة وتقييد إرادة الرئيس والإعلام. فالشعب الأميركي لم ينتظر تحقيقاً ليعرف منه الجديد عن عنصرية بعض إدارات الشرطة في عددٍ من الولايات، ويعرف مدى قسوة تعامل هذه الأجهزة مع المواطنين على اختلاف أنواعهم وسوء أدائهم في السنوات الأخيرة. من ناحية خامسة يحتمل أن النخبة الحاكمة في الولاياتالمتحدة التي تتكون من صقور تربوا خلال 20 عاماً على أيدٍ متدربة وفاهمة وواعية لما تريده ليس فقط لأميركا ولكن للعالم الخارجي، لم تنتبه إلى إنها إذا سلكت طريق العنف في الخارج فقد تبدأ بحرب وفي أقل من شهور قليلة تجد نفسها قد ورطت الولاياتالمتحدة في عديد من الحروب. لقد نجحت هذه النخبة في تقنين الحرب كإحدى الأدوات الأساسية في تنفيذ أهداف أميركا ومصالحها في الخارج، بل وفي أن تجعل للحرب الأسبقية على غيرها من الأساليب. ولا يخفي مراقبون خشيتهم من أن يؤدي هذا التطور إلى سلسلة من الحروب وليس حرباً واحدة. وتكفي نظرة إلى خريطة انتشار القوات العسكرية الأميركية في العالم ليتضح أن القوات الأميركية في حالة استعداد واستنفار على الأقل في خمس مناطق في العالم ومشتركة في ثلاث حروب على الأقل. أعتقد شخصياً أن القوى الأميركية على ضخامتها لن تتحمل الاشتباك في أربع حروب في وقت واحد. وأظن أن النظرية القائلة إن أميركا لا تتحمل أكثر من حرب واحدة في وقت واحد صحيحة طالما ظلت عند حدودها ونظمها. ولكن في الوقت نفسه سعت كل الادارات الاميركية المتعاقبة إلى دعم القوى العسكرية الأميركية إلى حد يسمح لها بأن تتدخل في حربين أو أكثر في وقت واحد. وعلى كل حال مازالت النظرية سائدة حتى الآن. وما زال الواقع - أي الحرب في أكثر من مكان - أيضاً سائداً. ومع ذلك سيكون مؤكداً أن تغييراً ما قد حدث في خطط التدخل في العراق. بدأ هذه التغيير - وهو في اتجاه تأجيل الحرب الكاملة أو استبدالها بحروب متعددة ومتعاقبة وصغيرة - وتزايدت وتيرة هذا التغيير بعد الأزمة الكورية الأخيرة. وقد يكون من حظ العراقيين أن هذه الأزمة الكورية نشبت في هذا الوقت الحساس وقامت بدور في تشتيت جهد أجهزة صنع القرار الأميركي أو إضعاف العزم الأميركي ضد العراق. يبقى سؤال يطرح نفسه منذ فترة: هل لو صح هذا الرأي وأن شيئاً ما يتغير في توجهات النخبة المتشددة في صنع القرار الأميركي، ستكون لهذا التغيير علاقة بالسياسة التي أقرتها واشنطن خلال مرحلة التشدد الأقصى في شأن الضغط على الدول العربية وبعض الدول الإسلامية لإدخال تغييرات سياسية وغير سياسية على نظم الحكم فيها وعلى مجتمعاتها؟ إن الإجابة لن تكون سهلة رغم الانشغال العظيم بها في كل عواصم العرب. فمن ناحية أعرف أن الأميركيين لن يتراجعوا عن هذه السياسة وعن القرارات التي دخلت فعلاً أنابيب التنفيذ سواء على الصعيد الدبلوماسي أو المالي أو العسكري. وأتصور في الوقت نفسه أن الأميركيين تواجههم الآن مشكلة صنع نماذج مناسبة للتطبيق في هذه الدول العربية والإسلامية. أهم ما يتردد في هذا الصدد وهو ما يستحق منا - كمراقبين - الانتباه الشديد، هو أن معظم النماذج التي تتحدث عنها مراكز التفكير في أميركا والمكلفة رسم خطط لمستقبل الشرق الأوسط تعتمد على حقيقة واضحة تماماً اكتشفها المفكرون الأميركيون بعد عام على الأقل من أحداث 11 أيلول. هذه الحقيقة هي ضرورة الاعتراف بوجود قوة سياسية للإسلام في كل الدول العربية والإسلامية. يصبح المهم في هذه الحالة اختيار الشكل المناسب أو الفريق المناسب من التنظيمات الإسلامية التي تبدي استعدادها وتتوفر لديها المؤهلات اللازمة للمشاركة في نظام سياسي تعددي. بمعنى آخر، وجود تيارات إسلامية تقبل بشروط تداول الحكم. ويبدأ التداول بين الحكومات القائمة وهذه التيارات الإسلامية المعتدلة باعتبارها بدائل حكم في شكل أحزاب معارضة مستقرة وملتزمة بالاعتدال والعمل السياسي الليبرالي. أقول مرة أخرى لو صح ما يتردد في هذا الصدد لأصبح علينا أن نتوقع إرشادات - آسف أقصد نصائح - أميركية إلى حكومات عربية بعينها لتكثف جهودها من أجل القضاء على كل أشكال التطرف الديني السياسي. الهدف هو تحصين الفرق الإسلامية المعتدلة ضد مزايدات التطرف المسلح أو غير المسلح بما فيه قوى التشدد في المؤسسات الدينية التقليدية والراديكالية والرسمية في المنطقة. في الوقت نفسه لن يستقيم الحال ولن تستقر أحوال نموذج من هذه النماذج إن وجدت في ظلها فرق شديدة التطرف في توجهاتها العلمانية. إذ أن وجود هذه الفرق وتنوع أنشطتها قد يستفز النماذج المعتدلة المعدة للعمل السياسي الهادئ والليبرالي. بمعنى آخر قد ينصح الأميركيون قريباً أو لعلهم نصحوا فعلاً كما بلغني، بضرورة إعداد البيئة المناسبة في كل دولة عربية وإسلامية للسماح بقيام حزب إسلامي معتدل. قد يأتي هذا الحزب على شاكلة الحزب الحاكم في تركيا أو الحزب المعارض في المغرب. لكن المهم في كل الأحوال أن يحظى بالرضا الأميركي وفي الوقت نفسه أن يتمتع بالتزام الأنظمة القائمة واجب حماية نشأة هذه الأحزاب ونموها وهي مازالت براعم ثم وهي أحزاب قادرة على المنازلة والمنافسة على الحكم. الشرط الآخر هو من نصيب هذه التيارات المعتدلة وهو الالتزام بالشرعية والاعتدال في كل المواقف السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وللموضوع بقية. * كاتب مصري.