تغيرت اشياء كثيرة منذ الهجومين على نيويورك وواشنطن، بعضها كان مطروحاً منذ مدة في شكل أسئلة. هذه الأسئلة لو أجيب عنها في الوقت المناسب لربما لم يقع الهجومان. سألنا ثلاثة أنواع من الأسئلة. نوع مباشر يتعلق بأميركا. كلنا نسأل عن سبب أو أسباب الانحياز ضد العرب خصوصاً والمسلمين عموماً، وعن تصريحات يتعمد المسؤولون الأميركيون ان تصدر مهينة وجارحة. كنا نسأل عن حدود السكوت على الحملات الإعلامية المشوّهة لصور العرب والمسلمين، ومداه، ولنكن صرحاء، فالتشويه في معظم الأحيان كان متعمداً ويعود الى عقود كثيرة خلت، وأكثر أبناء جيلنا لا ينسى الأفلام السينمائية عن قصص "ألف ليلة وليلة" وحروب إسرائيل الاولى ضد العرب، والمقالات الشريرة التي دبّجها محررون كبار في الصحافة المكتوبة الأميركية والتغطية السيئة لأحداث في الشرق الأوسط. وبلغت الحملات ذروتها مع بلوغ السياسات المنحازة الى اسرائيل ذروتها قبل حروبها مع العرب واثناءها، وآخرها الحرب التي تشنها منذ سنتين، عسكرياً ضد الفلسطينيين ومعنوياً ضد جميع العرب والمسلمين، ولا يخفى أن دولاً عربية كانت تأمل بأن تكون مظلة الحماية التي التزمت أميركا توفيرها تتسع لتغطي الاعتداءات على الصورة وتشويهها. وسألنا عن مصير الدولة في العالم عموماً، وفي عالمنا خصوصاً، فكل عمل خارجي كبير قامت به أميركا في السنوات الأخيرة كان أحد تداعياته قضية اضافية من مضمون سيادة الدولة وفكرها. لم يعد لأي دولة في العالم، باستثناء أميركا، النفوذ ذاته أو الحقوق ذاتها التي كانت لها في المنظمات الدولية بخاصة في الأممالمتحدة. فقدت الدولة، في كثير من الحالات والأحيان، هيبتها امام شعبها. إرادتها في الداخل حدّت منها ظاهرة اعتماد نشاطات منظمات المجتمع المدني على التأييد الخارجي. وحدّ من إرادتها في الخارج موقف الولاياتالمتحدة وممارساتها في الأممالمتحدة وغيرها من المحافل الدولية، مثل صندوق النقد. وتبادلت الإرادتان مشاعر العجز فازدادتا ضعفاً. وسألنا عن كفاءة الحكم في دول كثيرة في أفريقيا والشرق الاوسط وأميركا اللاتينية ووسط آسيا، والآثار المباشرة لهذه الكفاءة او لندرتها على الثقة المتبادلة بين الدول وبعضها بعضاً، بخاصة بين أميركا والدول الأخرى، وكذلك على العلاقة بين حكومات هذه الدول وشعوبها، وبخاصة بين هذه الحكومات وتيارات اشتهرت بكثرة الشكوى، وتخصص بعضها في إفراز جماعات لا تتوقف عن الرفض ثم الخصومة ومن الخصومة الى العنف. توجز الحال في فلسطينالمحتلة حال العالم العربي بأسره. فالاحتلال او الوجود العسكري يولد المقاومة. هكذا يفعل كل أشكال الإهانة والغطرسة والممارسات التي تختلط مع ما في ذاكرة الشعوب والأفراد الذين تمارس ضدهم شعور القمع والعنصرية والكبت. والمقاومة تأخذ اشكالاً تتناسب مع درجات القمع والعنف والإهانة. المقاومة في هذه الحال "رد إرهاب" يتخفى تحت أسماء متعددة. وما لا تريد ان تفهمه النخبة الحاكمة في أميركا، او في غيرها هو أن الإرهاب مرحلة قصوى في سلسلة مراحل تبدأ عند وقفة تعلن فيها المقاومة فشلها في تحقيق أهدافها بسبب الفجوة الواسعة في القوة بين الظالم والمظلوم، وبسبب رفض الطرف الظالم السماح للطرف المظلوم بأن يمارس الإقناع والحوار بأدوات تعوّض له شعوره بالفجوة في ميزان القوة. ويتصاعد الفعل إهانة وتوسعاً ويتصاعد رد الفعل غضباً وانتفاضة. وفي مرحلة متقدمة يتأكد لكل الأطراف أن الموقف، وقد اصبح عنوانه الإرهاب والحرب على الإرهاب، يخضع بالكامل للحكمة القائلة إنه لولا فضيلة الصبر لما تحقق انتقام ولا وقع ثأر. بمعنى آخر، لا أمل بكسر حلقة الإرهاب ورد الإرهاب إلا بالعمل فوراً لإزالة معظم الاسباب الدافعة الى الانتقام والمطالبة بالثأر، لا غطرسة ولا عنصرية ولا انحياز الى ظالم ولا احتلال ولا توسع، ولا استبداد في الحكم ولا استهانة بالفقر، وكلها محن تغلق الصبر اللازم للتخطيط للانتقام وأخذ الثأر. أتابع مشدوهاً طلباً أميركياً يتكرر في كل دولة عربية، وغير عربية، وهي الدولة التي بلغت حداً كبيراً من الضغط تحت ضربات قوانين العولمة الاقتصادية والرأسمالية بصورتها الجديدة المفترسة وضغوط المؤسسات الدولية وهيمنتها، بأن تعلنها حرباً على "جميع الإرهابيين" وبينهم المسلحون من المتطرفين الإسلاميين وغير الإسلاميين، وعلى رغم هذا الضعف يبدو أن معظم هذه الدول كان دائماً قادراً على لعب هذا الدور. لكنه لم يلعبه معظم الوقت لأنه لم يكن راغباً. إذ كانت القوى الدينية المتطرفة حليفاً لبعض الحكومات عند الضرورة، خصوصاً في مواجهة الغطرسة الأميركية. وكانت رصيداً اذا تجاوزت الضغوط الأميركية حدود الإهانة الى المهانة. وكانت قوة توازن اذا تجاوزت المنظمات المدافعة عن حقوق الانسان والديموقراطية والليبرالية حدودها الوطنية، وتضخمت في نظر الدولة بفعل الدعم الأجنبي أو وهمه. وكانت احياناً عنصراً مهماً من عناصر الحملات الإعلامية المضادة للحملات الإعلامية الأميركية، ثم إن مجرد وجودها تعويض رمزي عن عجز متفاقم في ميزان القوة السياسي والعسكري مع إسرائيل. مع ذلك يظل هذا الدور، أو هذا الطلب، ممكن التحقيق ضمن حدود قوة هذه الدولة أو تلك، أما ما كان وما لا يزال غير ممكن التحقيق فهو الطلب الذي استجد بعد 11 ايلول سبتمبر. اذ يبدو ان أكثر من دولة فهمت انه مطلوب منها تنفيذ عمليتين في وقت واحد: مطلوب أولاً أن تتخذ إجراءات عاجلة وجذرية في المجالات الدينية بهدف تحقيق إصلاح ديني شامل في أقصر وقت ممكن. ومطلوب ثانياً أن تتخذ إجراءات في المجالات الأمنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية لإضعاف قوى التطرف بأشكاله كافة، بخاصة التطرف الديني، وهذه مهمة صعبة وبالغة التعقيد. ولا يعني أنها صعبة ومعقدة ان الدول ستتقاعس عن القيام بها، بل يعني كونها إن فعلت ستتعرض لمواقف وتطورات لا تملك دولة في معظم أنحاء الشرق الأوسط مقومات النهوض لمواجهتها. وبعضها بالتأكيد متردد في استجابة هذا الطلب والدخول في خصومة صريحة مع قوى، هو نفسه غير واثق تماماً من أنه يستطيع تعريفها بدقة كافية، أو وضع حدود تقريبية تفصل بين الأشكال المتطرفة منها والأشكال المعتدلة، وتلك الساعية او المستعدة للمشاركة في صنع نهضة جديدة على أسس عصرية، ولكن ضمن هوية متفق عليها. وانقسم المعلقون. تخيل فريق منهم مشهداً اعتبره متفائلاً لمستقبل الدولة في العالم العربي خلال الأمد المنظور. في هذا المشهد ستقوم الدولة بتنشيط مؤسسات المجتمع المدني إن وجدت والسماح بقيامها إن لم تكن موجودة، وقد تدخل مع بعضها في حلف لضرب التطرف. ستخفف الدولة القيود المفروضة عليها، وستعهد اليها وظائف ومسؤوليات تخفف الأعباء التي تتحملها أجهزة الدولة ومؤسساتها. وستسمح بحيز أوسع من الحريات، بخاصة حرية الصحف إصداراً وتحريراً وتوزيعاً، لن تعتقل من دون إذن قضائي ولن تلجأ الى تشكيل محاكم عسكرية ولن تصدر قوانين استثنائية ولن تسمح بالتعذيب انتقاماً أو لتسهيل الحصول على معلومات. ستفرج عن مؤسسات المجتمع المدني التي اممت حين قررت أن بعض نشاطات المجتمع المدني نجح الى درجة مستفزة، أو أثرى ثراء مميزاً من دون اذنها، أو أقام علاقات عبر الحدود فصارت له ولما يفعل صدقية وكاد ان يتمتع بمناعة. يفترض قيام المشهد "المتفائل" أن تكون حكومات هذه الدول اقتنعت فعلاً بجدوى مؤسسات المجتمع المدني لذاتها وليس لفائدتها في التحالف ضد تيارات التطرف. وهناك سابقة في أكثر من دولة عربية حين انشأت مؤسسات مدنية شديدة التطرف دينياً، لتتحالف معها ضد مؤسسات مدنية أخرى يسارية التوجه. و ما يمارس على الطبيعة منذ سنوات في أكثر من دولة عربية أقرب ما يكون الى واحد من أشكال الحرب الأهلية "المدنية". ويفترض المشهد المتفائل ايضاً ان تحل الثقة محل انعدامها في العلاقة بين الدولة في العالم العربي ومؤسسات المجتمع المدني. ففي حالات غير قليلة، تتهم الدول بعض منظمات المجتمع المدني بأنها تحصل على تمويلات أجنبية من جهات ربما كانت تسعى الى تغيير ممارسات او تقاليد أو أساليب حكم وسياسة، أي تعمل ضد النظام السياسي والاجتماعي القائم. وترد هذه المنظمات بأن الحكومات تبحث عن ذرائع لتجميد نشاطاتها، وتكبيل المجتمع المدني بأسره أو إخضاعه لإشرافها. يقابل هذا المشهد المتفائل مشهد متشائم. يتوقع كثيرون في الغرب أن تنتهز حكومات متعددة في العالم العربي وخارجه أوضاعاً غير صحية أفرزتها الحرب الأميركية الجديدة، فتغلق كل النوافذ المفتوحة. والحجة، أو الحجج للإغلاق قائمة وقوية. أولاها وأهمها أن الولاياتالمتحدة قائد العالم الحر ونصير المجتمع المدني وحقوق الانسان وسيادة القانون، لم تتأخر لحظة واحدة في الانقلاب على كل هذه المقدسات المدنية، عندما شعرت بالخطر يهدد سلامها واستقرارها وأمنها. تحالفت مع دول وقوى ما كان يمكن لعاقل ان يتصور أنها ستتحالف معها عند عسر أو يسر. وقد يجد بعض هذه الحكومات مناسباً لتسهيل انقلابه على المجتمع المدني ونقض التزامه احترام الحقوق والقوانين، أن يشجع على كراهية الولاياتالمتحدة، ولعلها أبسط المهمات التي يمكن حكومة عربية القيام بها في هذه الظروف، حيث الغضب على سياسات أميركا على أشده. أو قد يتصلب بعض تلك الحكومات في مواقفه الخارجية، ولو شكلاً، او يتحالف فعلياً مع قوى التشدد الداخلية. فالتدخل العسكري الأميركي ضد أي دولة عربية وارد، ولدى أميركا من الأسباب ما يكفي ويزيد لتبرير أي تدخل أمام شعبها. وستباركها حكومات دول متعددة مثل روسيا التي تكررت شكواها من تدخل حكومات عربية في شؤونها الداخلية، وتغلي ساحتها بحقد على العرب والمسلمين. ويفترض هذا المشهد المتشائم ان يطول أمد الحرب الأميركية في آسيا وغيرها، وان يزداد الضغط الأميركي على الدول العربية والإسلامية لفرض إصلاحات لا تقوى فعلاً على إنجازها. ويفترض فوق هذا وذاك ان تواصل إسرائيل برضا أميركا او من دون رضاها التصعيد ضد الفلسطينيين وايران وجميع العرب. فبهذا التصعيد يزداد الغضب وينكشف عجز الدولة في العالم العربي عن الرد في أي صورة معقولة. هذه الدولة لا تعرف تماماً - ولا حتى بالتقريب - إن كانت الزيادة في فرض القيود على الحريات والمجتمع المدني أفضل، أم العودة، متدرجة او بالجملة، الى سياسة فتح النوافذ. لا أحد يعرف، ولا أحد يضمن بعد الآن السلامة والاستقرار. لكن الأكيد في كل الاحوال أن داخل كل نخبة سياسية في العالم العربي والإسلامي، انقساماً في الرأي: فريق صغير العدد متصلب الموقف والارادة في تأييد الولاياتالمتحدة حقاً وباطلاً، فلا سلامة ولا استقرار من دون هذا التأييد... وفريق أكبر عدداً متردد في الموقف والارادة، غير مطمئن الى نيات أميركا، غير واثق من شعبيته وقدرته على توجيه دفة الحكم إن استمر الهياج الأميركي. * كاتب مصري.