أحاول فهم ما يدور في أذهان صانعي القرار الأميركي حول التطورات الجارية في مصر. قيل لي إنهم قرروا أن يعينوا أنفسهم وأقراناً لهم في حلف الأطلسي أوصياء على مصر. لم يستفتوا شعب مصر ولم يسألوه الرأي في فرض الوصاية عليه، رغم أن لب «المسألة المصرية» كما نسجوها أو كما هيئت لهم، كامن في حق شعب مصر في اختيار من يحكمه أو يوصي عليه. حذرتُ، في مكان آخر، من سعي بعض القوى السياسية المصرية، ومنها قوى حاكمة حالياً وقوى كانت حاكمة قبل شهور وقوى كانت حاكمة قبل سنوات وأراها تستعد للعودة إلى الحكم، من استمرارها جميعاً في دعوة أطراف خارجية للاشتراك في البحث عن تسوية مناسبة للأزمة السياسية الناشبة في مصر، هذه الأزمة التي هي من صنع هذه القوى والدليل الدامغ على نقص كفاءتها وعدم استحقاقها الحكم. كانت الدعوة خطوة، بل قفزة واسعة، نحو تدويل أزمة داخلية. أعرف أيضاً أن الدعوة وإن بدت وقتها مبادرة داخلية، كانت في جانب منها استجابة لرغبات خارجية. لقد كان التدخل الدولي في الشأن المصري منذ نشوب الثورة هدفاً للسياسة الخارجية الأميركية بخاصة والغربية عموماً. وفي الوقت نفسه كان عادة سياسية درج على ممارستها السياسيون في الشرق الأوسط، على الأقل منذ عصر الدولة العثمانية. تساءل خبراء أميركيون عديدون في الآونة الأخيرة عن المبادئ التي تقف وراء سياسة الولاياتالمتحدة تجاه تطورات السياسة الداخلية المصرية. تعددت صياغات الإجابة ولكن بقي جوهرها واحداً، وهو أن أميركا لا تريد أن تفقد مصر. قضينا سنوات نتمعن في هذا الجوهر ونبحث عن ترجمة واقعية له. كثيراً ما سألنا عن معنى أن تكسب أميركا مصر أو تفقدها. وقضينا السنوات نسأل عن الشكل الأمثل لمصر التي تريدها أميركا واحترنا. رأيناها وكأنها قررت أن الدولة في عصر أنور السادات وحسني مبارك هي الشكل الأمثل، ثم رأيناها تفضل وربما تفرض دولة هجيناً تجمع بين الدين كحقيقة مطلقة والديموقراطية كمضاد للحقيقة المطلقة كشكل أمثل. يبدو أن الرهان على مصر ارتبط منذ نهاية حرب تشرين الأول (أكتوبر) 1973، بقضيتين كان للرئيس السادات والقيادة الأميركية الفضل في بلورتهما وتثبيتهما في صدارة العلاقة بين الولاياتالمتحدة ومصر. إحداهما مبدأ أمن إسرائيل وسلامتها وسلامها الذي تختاره كاقتناع مشترك مصري أميركي، تلتزم به النخبة الحاكمة المصرية وتعتبره مصدراً من مصادر «شرعيتها الدولية» يسبق أي مصدر آخر. من ناحية أخرى، طرح الرئيس السادات أهمية إشراك «الإخوان المسلمين» في العمل السياسي الداخلي في مصر. حدث هذا في وقت مبكر بعد حرب 1973 حين حاول إقناع الأميركيين بأن جماعة «الإخوان» يمكن أن تلعب دوراً حيوياً في المواجهة الناشبة بين السياسة الأميركية في الشرق الأوسط وتيار الحركة القومية وبعض قوى اليسار. وفي ظني أن مساعي السادات قوبلت في حينها ببرود، إذ لم تحتل فكرة الاعتماد على تيارات الإسلام السياسي مكانتها المهمة في خطط أميركا لتأمين مصالحها في الشرق الأوسط إلا في عقد الثمانينات. ففي تلك الفترة أثبتت فصائل «المجاهدين» كفاءة في محاربة الشيوعية في أفغانستان. ولم يمض وقت طويل إلا وكان البحث عن قوى إسلامية تتولى مسؤولية الحكم في دول الشرق الأوسط يجري على قدم وساق، من أفغانستان وباكستان شرقاً إلى دول شمال أفريقيا غرباً. وفي الوقت نفسه نشطت قوى إسلامية معتدلة تستعد للتعاون مع سياسات الولاياتالمتحدة وحلف الأطلسي لمساعدتها على الوصول إلى الحكم. يبدو لي أن وصول حزب إسلامي إلى السلطة في تركيا، وإن على مرحلتين، كان إنجازاً لهذا «الخط الجديد» في السياسة الأميركية. يبدو أن الدور الذي قام به حلف الأطلسي وقياداته العسكرية والسياسية في إقناع المؤسسة العسكرية التركية أو إجبارها على التخلي عن مكانتها في النظام السياسي التركي، كان حاسماً في تحقيق أول انتصار للمشروع الإسلامي في حلته الجديدة، حلة القرن الحادي والعشرين. لا أتصور أنه من دون المفاوضات الطويلة للانضمام إلى الاتحاد الأوروبي، ومن دون ضغوط بروكسل، وبخاصة باريس وبرلين، على السياسيين والعسكريين الأتراك، كان يمكن أردوغان وحزبه الوصول إلى الحكم وتثبيت دعائم شكل من أشكال دولة تجمع بين الدين الإسلامي والديموقراطية. كان إضعاف نفوذ المؤسسة العسكرية شرطاً ضرورياً. أقرأ أحياناً لمفكرين أميركيين كبار منتمين إلى تيار المحافظين الجدد، بعضهم ساهم بقدر وافر في دعم «الخط الجديد» في السياسة الأميركية حول تهيئة تيارات إسلامية لتتولى الحكم في الشرق الأوسط. عدتُ أقرأ ما كتبوه قبل عشرين عاماً وما يكتبونه الآن حول الأزمة المصرية الراهنة، وبخاصة بعد فشل «الإخوان المسلمين» في الاحتفاظ بالحكم الذي أعانتهم واشنطن على الوصول إليه. لم تخطئ عيني حجم الحسرة وخيبة الأمل، بل والغضب لدى بعض من هؤلاء. شعرتُ، وأنا أقرأ لهم، كما لو أن أميركا، أو على الأقل أميركا التي في خاطرهم، فقدت عزيزاً أو رصيداً. أختار مما قرأتُ، وهو كثير، البيان الذي حرره ووقع عليه ونشرته قبل أيام قليلة صحيفة «واشنطن بوست»، روبرت كاغان مع آخرين، من نوع إليوت أبرامز ورئيول غريخت. يكفي أن نعرف أن بعض هؤلاء أيد بشدة، وما يزال يؤيد، التدخل في شؤون دول الشرق الأوسط. كانوا مع غيرهم وراء التدخل في العراق وليبيا وتونس واليمن وسورية، ويعملون الآن لفرض وصاية دولية على مصر. يعرفون أن مصر هي الجائزة الكبرى، وتستحق تعبئة جهود حلف الأطلسي ومجلس الأمن والمؤسسة العسكرية الأميركية للاحتفاظ بها رصيداً وكنزاً لأميركا. مصر بالنسبة إلى هؤلاء، والى آخرين، منهم من زارنا أخيراً وتصرف بغباء أو بعدم لباقة متعمدة تستحق أن تشتعل فيها، من أجل المحافظة عليها داخل دائرة النفوذ الأميركي، حرب باردة جديدة. كان الظن لدى تيارات اليمين المحافظ الأميركي أن الثورات العربية حسمت أو كادت تحسم قضية العلاقة بين الدولة والدين في الشرق الأوسط لصالح القوى الدينية. وكان الظن أن هذا الحسم سيكون على حساب القوى القومية والوطنية. هذه القوى بأفكارها ومشاعرها تسببت في مشكلات كبيرة للسياسات الغربية في الشرق الأوسط والعالم الاسلامي عموماً. يدعم هذا التوجه الأميركي تيار قوي في النخب الحاكمة في أوروبا الغربية التي باتت تخشى من أن فشل «الإخوان المسلمين» في الاحتفاظ بالحكم في دول الربيع العربي وتركيا سيشجع العناصر المتطرفة في الجاليات الإسلامية في أوروبا على شن حروب إرهاب في الغرب. كان الأمل في عواصم أوروبا أن تقوى وتستقر حكومات «الإخوان» في العالم العربي وحكومة أردوغان في تركيا إلى الحد الذي يسمح لكلمتها أن تكون مسموعة ومطاعة بين التيارات الإسلامية كافة. سمعتُ من محلل أوروبي تعليقاً نقله عن مسؤول في بلده قال فيه إنهم في أوروبا تمنوا لو أن كلمة «الإخوان» صارت مسموعة في أوساط المتطرفين الإسلاميين في أوروبا كما هي مسموعة في أوساط تنظيمات «القاعدة» في سيناء. هم قادرون على ضبط التطرف وإخضاعه بكلفة أقل مما لو كانت في الحكم في الدول الإسلامية قوى وطنية أو قومية. أتوقع ضغوطاً هائلة على مصر خلال الأيام المقبلة لتدويل الأزمة المصرية وإعادة الإسلاميين إلى الحكم تحت عنوان أو آخر، حتى بان كي مون طلب أن يحضر ومعه كبار خبراء التدخل، وهم المسيرون الحقيقيون للعمل السياسي في المنظمة الدولية ولبعضهم خبرات غير مشرفة في الشرق الأوسط. أرى أن أميركا تكاد تفقد مصر. وستفقدها لو استسلم أوباما لآراء المحافظين الجدد في أميركا ودعاة التدخل في فرنسا وغيرها من دول أوروبا الغربية وخبراء الأممالمتحدة. * كاتب مصري