تحكم النموذج السياسي الإسرائيلي تعددية حزبية ونزعة ترابطية من منطلق اقتسام السلطة غير المستندة على قاعدة الغالبية. وإذا كان مفهوم النزعة الترابطية يغطي الممارسات غير الرسمية والهياكل المؤسسية ذات الأهمية البالغة في إسرائيل، فان ذلك يؤكد أن الديموقراطية في الدولة العبرية هي ديموقراطية توفيقية، نتيجة حال التنافس بين المؤسسات السياسية، ويعد في الوقت نفسه تراجعاً لديموقراطية الغالبية المعروفة في النظم السياسية، ما يعطي الفرصة لزيادة الوزن النسبي للاحزاب الدينية وقدرتها على التأثير في القرار السياسي. وبعيداً من التكهنات، فإن سيحسم الاسرائيليون الامر في الانتخابات المقبلة تحت تأثير متغير مستقل هو الأمن، ومتغير تابع هو الأزمة الاقتصادية، إضافة إلى متغيرات عدة طرأت على المجتمع الدولي اثر أحداث ايلول سبتمبر 2001 التي استغلتها إسرائيل لدفع شعبها ليكون طرفاً في ما يسمى "الحرب ضد الإرهاب"، وتصنيف المقاومة الشرعية لشعب فلسطين تحت هذا المسمى. وفي ظل هذه القناعة سيؤيد الشارع الإسرائيلي الحزب الذي يقدم له البديل، وهو الأمن. ومن المعروف ان السلام بالنسبة الى اسرائيل لا يتجزأ لكنه يطرح من خلال مجموعة من البرامج الحزبية بصياغات متعددة لتحقيق الغاية من وجهة نظر ثوابت الدولة. وفي هذا الإطار هناك أربعة برامج للسلام: السلام اليميني بزعامة الليكود الذي يدعو إلى حسن الجوار مع الفلسطينيين من دون إقامة دولة لهم ويطالب بالقدس عاصمة موحدة لإسرائيل مع تعزيز حركة الاستيطان وضمان الدولة العبرية لحرية العبادة والوصول إلى الأماكن الدينية. وداخل هذا التيار هناك "سلام ليبرمان" حزب إسرائيل بيتنا الداعي للترحيل الجماعي للفلسطينيين. السلام اليساري بزعامة حزب العمل الذي يعمل في هذا الصدد وفق مشروع بيل كلينتون مع إقامة جدار فاصل عن الفلسطينيين، والاستعداد للانسحاب الثالث ليعيد للفلسطينيين 23 في المئة من الأراضي المحتلة وضمها إلى المنطقتين "أ" و"ب" المحتلة حالياً ليصبح 65 في المئة من المناطق تحت السيطرة الفلسطينية. وفي قلب اليسار حزبا "حداش" و"ميريتس"، والأخير يدعو الى فرض نظام الوصاية الدولية لاعادة هيكلة السلطة الفلسطينية. السلام الوسطي ويقع بين التيارين السابقين ويتبناه أساساً حزب شينوي الذي تركز برامجه على علمانية الدولة وحماية المجتمع من القهر الديني. وهذا التيار يدعو إلى السلام مع الدوائر الفلسطينية المعتدلة لكنه يتحفظ عن حق عودة اللاجئين في مقابل إقامة دولة فلسطين واحترام حرية الأديان الثلاثة في القدس. سلام التيار الديني: وفي أوله حزب "المفدال"، وهو في غالبيته الداعي الى "إسرائيل الكبرى" مع تأييد الفصل الأمني الحالي وتجميد الوضع الراهن حول الصراع في قضايا الدين والدولة والتمسك بالقدس عاصمة أبدية وموحدة لإسرائيل. وفي هذا التيار حزب "شاس" الذي يرى أن التوراة هي دستور الدولة ويرفض قيام دولة فلسطين. وبين الحزبين يقف "حزب يهودا توراة" الداعي الى بعض الحلول الوسط. وتسعى الأحزاب والحركات الدينية الاسرائيلية على رغم اختلافاتها السياسية والعقائدية، إلى تحويل إسرائيل إلى دولة دينية تحكمها مبادئ التوراة. ومن اجل ذلك اختارت الصهيونية الدينية طريق التكيف والتعاون مع الحركة الصهيونية. أما التيار الديني اللاصهيوني فعمد إلى الانعزال عن الفكر الصهيوني والانحصار في الفكر الارثوذكسي. وتعبر الحال الدينية التي تمر بها إسرائيل عن تنوع داخل تيار واحد، وهو ما ينخدع به البعض ويطلق عليه خطأ "مؤشرات الحرب الأهلية". فيهود إسرائيل متوحدون في اتجاه مذهبي واحد هو الوعد كما تؤكد التوراة. وتستخدم الدولة المتدينين ورقة ضغط، وهم يدركون ذلك ويقدرون العائد من هذه الحال ويمارسون دورهم القيادي لأن الدولة ما زالت في حاجة الى الشريعة وحكمائها لحمايتها. وهنا يظهر تحديد لمعنى التطرف، إذ ينفي المتدينون هذا الوصف عن الجماعات والحركات الدينية ويطلقونه على الخارجين عن "الشريعة اليهودية". ويؤكد هذا التوصيف أن المجتمع الإسرائيلي سوق للأيديولوجيا والعقيدة الدينية معاً. وتعتبر الحركات والأحزاب الدينية تنظيمات براغماتية في نظرتها وتعاملها مع القضايا المختلفة باستثناء التشريعات الدينية، إذ يلجأ المتدينون إلى تجزيء القضايا المثارة ويرون أن هناك قضايا يعد التنازل عنها تراجعاً عما شرعه الرب لليهود فلا تراجع عن القدس أو المستوطنات أو عودة اللاجئين وكل هذه القضايا لها مرجعية تأويلية يمكن مناقشتها. الوزن النسبي للتيار الديني وفي دراسة للدكتور خليل الشقاقي عن درجة التدين وتأثيرها في عملية السلام في العقدين الأخيرين ذلك ارتباطاً بمدى الالتزام بالتعاليم الدينية ، كان غير الملتزمين بالتعاليم 34 في المئة عام 1981، وبلغت 25 في المئة عام 1991 ووصلت الى 23 في المئة عام 2000، وهو ما يعني ان هناك صعوداً فى درجة الالتزام الديني. وتضاعف حجم القوة السياسية للتيار الديني اليهودي في إسرائيل في العقدين الأخيرين من 10 مقاعد في الكنيست عام 1980 الى 19 مقعداً عام 1988، الى 27 مقعداً عام 1999 من إجمالي 120 مقعداً. وكانت نسبة الأصوات المؤيدة للتيار الديني من إجمالي الأصوات 2،10 في المئة عام 1981، وبلغت 8،14 في المئة عام 1988، وصعدت إلى 2،21 في المئة عام 1999، والأخيرة موزعة على النحو الآتي: 13.1 في المئة لحزب شاس 17 مقعداً ، 4,2 في المئة للمفدال خمسة مقاعد، و3.9 في المئة لحزب يهودا توراة خمسة مقاعد. ومن استقراء هذه الأرقام نجد تصاعداً تدريجياً للتيار الديني قد يعبر حاجز ال25 في المئة من قوة التمثيل النسبي للكنيست في الانتخابات المقبلة. ومع احتمالات زيادة رصيد المتدينين سواء في عدد المقاعد في الكنيست أو الحقائب الوزارية في ظل اقترابهم من قمة السلطة، سيتغير الكثير من الواقع في إسرائيل من برامج تربية وتعليم وبرامج إعادة التنشئة الدينية والاجتماعية للمهاجرين الجدد القائمة على قواعد عنصرية وأرثوذكسية، وهو ما يعني بروز أجيال جديدة أكثر تشدداً بعد عقدين من صعود الأحزاب الدينية القوة الثالثة حالياً في النظام السياسي، وغير بعيد أن تقفز إلى القوة الثانية في ظل ازدياد رغبة الفرار من تأييد الليكود والحفاظ على قوة اليمين المتشدد من خلال تأييد المتدينين. من هنا تأتي أهمية الحوار مع الآخر من موقف الوعي بالمتغيرات داخل المجتمع الاسرائيلي، اذ ان الحكومة الاسرائيلية المقبلة سواء كانت ائتلافية أو وطنية لن تتحول بسهولة عن الإرث الليكودي. * باحث في الشؤون الاسرائيلية عضو في المجلس المصري للشؤون الخارجية.