بعضهم لا يتجاوز عمره 16 عاماً أو أكثر قليلاً وغالبيتهم لا يزيدون على الثلاثين، لكنهم يقدمون أنفسهم كفقهاء ومشايخ وعلماء عظام لا يفتى وهم في المدينة. "صبية الإفتاء في اليمن" قضية تتصدر اهتمامات الرأي العام اليمني إثر سلسلة من الأعمال الإرهابية والتخريبية والاغتيالات من شبان يمنيين يعتقدون أنهم على حق بعدما أصدروا أو تلقوا فتاوى قبل تنفيذ أعمالهم بإنهاء حياة "الملحدين" و"العلمانيين". وبدأ هؤلاء الشبان الذين تصدوا لقضية الإفتاء من دون علم كاف أو دراية يشكلون في نظر الفاعليات السياسية والاجتماعية في اليمن خطراً داهماً ليس لأنهم يغلقون باب الاجتهاد أو يلوحون بسلاح الفتوى ضد مخالفيهم في الرأي فحسب، بل لأنهم تغلغلوا داخل أوساط شباب مأزوم نفسياً واقتصادياً ويعاني البطالة لإغوائه بالانضمام إلى معسكر تجهيل المجتمع وتكفير الغير. "كيف تصبح مفتياً في عشرة أيام" بهذا الشعار يمكن أن تكتشف بسهولة حجم الفوضى في أسواق الكاسيت في صنعاء والتي تعج بكل ألوان المذاهب ومشارب الفقهاء الذين اكتسحوا الساحة لمجرد حدتهم في المواقف أو رفضهم لكل ما يجري. إحدى الصحف المحلية اليمنية أجرت استطلاعاً للرأي حول الشرائط الدينية فلاحظت أن السوق تعج بالعشرات والمئات من المشايخ الذين نصَّبوا أنفسهم علماء وحكماء عصرهم، ولا يكلف الأمر بحسب الصحيفة لتكون عالماً سوى 150 ريالاً "أقل من دولار"، قيمة شريط كاسيت فيه أسئلة وإجابات عن بعض القضايا الفقهية ثم تضيف إلى ذلك شهادة تزكية من أحد العلماء وتدريب جيد على فن الإلقاء والتحدث إلى الجموع. والغريب أن هناك إقبالاً واسعاً من فئة الشبان على المشايخ الصغار وفتاواهم الغريبة. وبدأت الأوساط الثقافية والفكرية في اليمن توجه أصابع الاتهام إلى المدارس والجامعات في شأن زيادة التطرف والإرهاب وزيادة المشايخ المصطنعين. ويرى حسن العديني رئيس تحرير جريدة "الأسبوع" المستقلة أن المدارس والجامعات والمساجد ووسائل الاعلام "تحقن عقول الاطفال والشباب بجرثومة التطرف وتحضهم على القتل وسفك الدماء". وفي رأي العديني، إن "الحرب المقدسة ضد الارهاب" يجب أن تبدأ من المدرسة ومناهج التعليم والمدرسين أنفسهم، "ويتعين كذلك تطهير جهاز الارشاد والاوقاف من المتطرفين والمتعصبين واستبدالهم بوعاظ حقيقيين ينشرون الفضيلة والمحبة بدلاً من التعصب والجهالة". ويطالب العديني بعدم السكوت باسم الديموقراطية عن الاحزاب التي يشيع التعصب بين أعضائها، "بل يجب المكاشفة بين كل القوى السياسية لاظهار مسؤولية كل منها عن نشر البيئة التي ينمو فيها التطرف، ولا عيب في ان نطالب الاحزاب المعبأة بالمتطرفين والمحرضين على الارهاب بتطهير صفوفها وإعادة اوضاعها مع قانون الاحزاب". ويؤكد المحلل والكاتب السياسي أحمد الحبيشي أن الأحداث الإرهابية الأخيرة "تنطوي على أبعاد فكرية وثقافية. فالذين ارتكبوا هذه الجرائم ينطلقون من دوافع عقائدية وايمانية اكثر منها سياسية". وطالب "بتخليص البيئة الثقافية والتعليمية والاعلامية من كل ما من شأنه تغليب ثقافة التعصب وإثارة الكراهية ضد الآخرين وتعبئة المشاعر العدائية ضد المجتمع الذي يوصف عادة بالجاهلية والانحراف من منظور الفكر التكفيري". ويعتبر الدكتور عبدالله معمر أستاذ علم الاجتماع المساعد في جامعة صنعاء أن هناك عوامل تدفع بعض الشبان إلى ثقافة العنف والارتماء في أحضان الإرهاب، منها العامل الاجتماعي ويتمثل في أسلوب التنشئة الخاطئة من جانب الوالدين والمتمثلة في الضغط الأبوي على الأبناء أثناء عملية التربية التي يسودها الضغط والحرمان الاجتماعي والعاطفي، مما ينمي جانب الحقد والكراهية. ويرى معمر أن الفقر والحرمان الاقتصادي يعملان على دفع استحواذ الشعور بالنقص اضافة الى مزيد من سيطرة السلوك العدائي الذي يتجلى بحقد الفرد على المجتمع والرغبة في الانتقام من الكل شيئاً فشيئاً حتى تسيطر هذه الرغبات على الفرد فيبدأ في ترجمة ذلك عملياً باختيار بعض الرموز الاجتماعية. ويؤكد معمر أن هذا الشعور يزداد ترسخاً في حالات منها وجود أرضية خصبة لتنميته ونضوجه من خلال التعبئة الخاطئة من بعض الأحزاب السياسية بتبنيها أيديولوجيات تهدف إلى بث حال من التطرف الفكري والأيديولوجي لدى عناصرها من طريق اختلاق بعض الإشاعات التي ترفع الغيرة لدى الفرد تارة باسم الدين وتارة أخرى باسم محاربة الكفر والإلحاد بهدف تغيير المنكر باليد أو القول أو القلب وهو الأمر الذي جعل البعض ينصِّب نفسه خليفة لله في أرضه. ويخلص معمر إلى نتائج لثقافة العنف منها سيطرة هذه الثقافة الرافضة لكل الثقافات الأخرى، ما يجسد عملية عدم القبول بالآخر ثقافياً واجتماعياً واقتصادياً وسيطرة الفهم الديني المغلوط لحقيقة الدين الإسلامي والإساءة إلى الدين من الداخل. ويقول الوكيل المساعد في وزارة الأوقاف والإرشاد اليمنية حسن عبدالله الشيخ: "للأسف الشديد ما هو حاصل في زماننا الحاضر لا يخرج عن كونه فوضى علمية، فأصبح من يحفظ أو يفهم مجموعة من الأحكام يدعي أنه متصدر للفتوى في ما يعلم وفي ما لا يعلم وهنا يكون الضرر". ويدعو الشيخ إلى ضرورة وضع ضوابط للفتوى بحيث تكون هناك جهة يلجأ إليها الجميع بدلاً مما هو حاصل الآن". ويعتبر المدير العام للوعظ والإرشاد في وزارة الأوقاف حمود علي ناصر أن سبب الفوضى وجود "أنصاف العلماء ممن تجدهم متطفلين على أصحاب العلم فتراه يدرس شهراً في أحد المراكز ثم يدعي أنه عالم، ومعظم هؤلاء يتلقون ما يدرسون أو ما يفتون به من أشرطة يسمعونها من علماء من هنا وهناك". وفي الاتجاه المقابل سعت الحكومة اليمنية إلى استخدام سلاح آخر لمكافحة تعبئة الشباب الخاطئة وهو سلاح الحوار. وشكل الرئيس اليمني علي عبدالله صالح لجنة من العلماء برئاسة القاضي حمود الهتار، مهمتها الحوار مع "المغرر بهم" من الشبان الذين سافروا إلى أفغانستان أو انضموا إلى تنظيم القاعدة بغرض مساعدتهم على أن يصبحوا مواطنين صالحين ويندمجوا في المجتمع. وشمل الحوار أكثر من 100 شاب من المحتجزين في السجون اليمنية للاشتباه في انتمائهم من دون أن يكون لهم سجل إجرامي جنائي أو تخريبي في حوادث محددة. وبالفعل أصدر الرئيس اليمني أخيراً قراراً بإطلاق أكثر من 36 شاباً من المغرر بهم ومن الذين أوصت لجنة العلماء بإطلاقهم بعد أن كتبوا تعهداً يؤكدون فيه الثوابت الدينية والسياسية ومنها حرمة قتل الأجنبي أو خطفه لأنه مأمون وحرمة تغيير المنكر باليد أو القصاص من أحد لأن هذه مهمة ولي الأمر، أي رئيس الدولة. وفي ما يبدو، فإن هذه الوسيلة الناجعة أثبتت نجاحها إلى حد ما في تغيير قناعات عشرات الشبان اليمنيين وترويضهم باتجاه تكريس مفاهيم جديدة لديهم ومساعدتهم على التوصل إلى رؤى سلمية لا تتصارع مع الغير أو الدولة. وتشير فاعليات يمنية إلى أن معظم الشبان المتطرفين هم من الناقمين على الأوضاع العامة والخاصة والذين عاد بعضهم من أفغانستان ليجد مجتمعاً غريباً عنه، في الوقت الذي تعلم هناك التدريب العسكري وتنفيذ العمليات مع "المجاهدين ضد الملحدين الروس". ويحرص هؤلاء الشيوخ الشبان على ارتداء الجلباب الأبيض القصير نوعاً ما مع شال يغطي الرأس. ومن ملامحهم يمكن أن تستشف بسهولة مدى الغضب والرفض للواقع مع شيء من البساطة في المظهر والزهد في مطالب الحياة. أحد هؤلاء الشبان قاتل جار الله عمر والذي درس سنة في جامعة الإيمان. ووصفه زملاؤه بأنه كان مغالياً في مواقفه وآرائه ولذا فصلته الجامعة. ويقول عبدالوهاب مهيوب خريج الدفعة الثانية من الجامعة: "لم أعرفه شخصياً أو كطالب في الجامعة، وما كنت أسمعه من زملائي ممن عرفوه في الدفعة الأولى ودرسوا معه في أول سنة افتتحت فيها الجامعة في العام 1994أنه كان كثير التذمر من الجامعة ومنهجها وقيادتها". ويقول أمين عبدالله عن علي جار الله المتهم باغتيال الزعيم الإشتراكي جار الله عمر: "ترك الدراسة في الجامعة عام 1995 معلناً أن منهج الجامعة قاصر وغير علمي ولا يتناسب معه، وانقطعت أخباره عنا حتى فوجئنا بخطبته التي على أثرها أدخل سجن الأمن السياسي، وتناول فيها الإصلاح وقياداته ورئيس الجمهورية مدعياً أنهم سبب الفساد ورموزه في البلاد، وأن له بحثاً ضمنه في 15 شريط كاسيت ادعى فيها أنها فضائح لممارسات قيادات الإصلاح والدولة واعتبر هذه الأشرطة دعواه القضائية ضد الإصلاح وقياداته والسلطة الحاكمة". ويضيف عبدالله: "ولذلك ترك الجامعة وهو لم يكمل السنة بمبرر البحث عن العلم الشرعي باعتبار أن منهج الجامعة وسطي واعتدالي لم يعجبه وكان كثير الانتقاد مغالياً في مواقفه وآرائه داخل الجامعة وخارجها. ويؤكد زميله في السنة نفسها وأحد الذين عرفوه في الجامعة محمد المحمدي أن المتهم بالقتل يطلب العلم الشرعي في زبيد وجبلة ولم يرق له الوضع في الجامعة وكان يميل الى التشدد في الآراء والمواقف". ويقول رشاد عبده نصر: "خرج قبل أن يكمل سنة واحدة من دراسته فيها، ولم تقبله الجامعة أو يدخلها منذ ثماني سنوات وحتى جريمته الشنيعة في اغتيال المناضل جار الله عمر".