شاعر وكاتب رواية صاحب رأى وراوي مُلح وبيروقراطي... ذاك هو غازي القصيبي. وعندما طلب مني الصديق عبده وازن أن اكتب شيئاً عنه، لمناسبة اختياره شخصية مهرجان القرين الثقافي في الكويت لهذا العام، احترت في الكتابة: ماذا اكتب وماذا اترك، وهو شخصية متعددة المواهب والقدرات؟ لكنني استجمعت نفسي وتذكرت حديثاً مع مجموعة من الأوروبيين قبل سنوات قليلة مضت، وكان الحوار الساخن يدور حول احتمال دخول تركيا النادي الأوروبي. كنت أناقش من زاوية أن إسلام تركيا هو الذي يمنع الأوروبيين من قبولها، فهي تتسكع على باب النادي الأوروبي منذ سنوات ولم يؤذن لها بالدخول حتى اليوم. فقال احدهم، تظن ظناً خاطئاً، ثم أكمل الرجل يقول، انه يفضل أن تدخل روسيا النادي الأوروبي، لأنها، كما أردف من دون أن يترك لأحد من الجالسين فرصة استجماع دهشته، قدمت إلى العالم موسيقيين وكتاب رواية عظماء، أثروا التاريخ البشري بروائعهم. ووجدت أن هذا النوع من التبرير مقبول جداً بين رجال تلك الحلقة، ثم قال المتحدث، ليجهز على وجهة نظر بدأت تأخذ طريقها الى لساني: ماذا قدم الأتراك في العصر الحديث للتاريخ الأدبي العالمي، أو حتى المحلي. منذ تلك المناقشة التي تلاشت تفاصيلها الدقيقة من مخيلتي وبقي فيها ذلك الأثر الواضح، الذي يقول أن ما يرجح الميزان ويخلّ في حساب التاريخ في نهاية الأمر، هو ماذا يقدم الشعب أي شعب من مساهمة في الثقافة العالمية الحديثة، وماذا يقدم الأفراد لشعوبهم من ذلك الإرث، وهو مقياس لا يقدر بحجم الثروة، ولا كبر مساحة الأرض، ولا عدد البشر، ولا حتى عدد محطات التلفزيون، أنها الثقافة، وما يبقي منها في الأرض لأجيال مقبلة، هو الذي يفرق شعوباً عن شعوب أخرى. هنا يأتي اسم غازي القصيبي في مقدمة من يستطيع أن يفكر فيه المرء، فهو من الرجال الذين قدموا مساهمة فعلية للثقافة، في منطقة عربية ظن البعض أنها قاحلة ثقافياً. لا اعتقد أن الكثيرين يعرفون غازي القصيبي كوزير للصناعة، أو وزيراً للصحة، أو وزيراً أخيراً للمياه. وربما يتذكره البعض كسفير للمملكة العربية السعودية، ولكن السفراء كثيرون، فعلى سبيل المثال لو لم يترك لنا حافظ وهبة، أول سفير للمملكة العربية السعودية بعض كتاباته، ومنها كتابه المعروف "خمسون عاماً في جزيرة العرب"، ربما لما تذكره احد، إنما كثيرون يعرفون غازي القصيبي بصفته شاعراً، وروائياً وصاحب رأي، وبصفته مستنيراً ومعاصراً. بين كتاب "أشعار من جزائر اللؤلؤة" أول كتبه، و"شقة الحرية" أولى رواياته، مروراً بعدد من الكتب التي أثرى بها غازي المكتبة العربية، يقف المؤرخ الثقافي، أن كان هناك تسمية، أمام رجل متعدد المواهب، غزير الإنتاج. بين كونه عضواً في لجنة شُكلت للنظر في العلاقة بين المملكة العربية السعودية واليمن في الستينات، مروراً بتسلمه مسؤولية جهاز السكة الحديد، ثم وزيراً لأكثر من وزارة، كان غازي البيروقراطي، الذي ما أن يحط رحاله على كرسي المسؤولية، حتى يؤكد لزائريه أن كرسي المسؤولية هو "كرسي دوار" أفضل ما فيه ليس سلطته، بل ما يتركه شاغله للناس من اثر طيب وايجابي. يكتب غازي القصيبي مقدمة لكتابه "رجل جاء وذهب" فيقول: "بين شطحات الشاعر، وكوابيس الروائي، ولؤم البيروقراطي" أنها ثلاثة من التعبيرات لها معني، وهي ربما تدل على توليفة هذه الشخصية المتعددة الآفاق، فالشاعر له "شطحات" لا يعطلها كونه ديبلوماسياً، لذا كانت قصائده إبان الانتفاضة الفلسطينية الأخيرة، مكان جدل في الوسط الديبلوماسي، ومحط احتجاج، حتى ساد الرأي أن البلاد التي يمثل فيها بلده وقعت تحت ضغوط بسبب كلمات غازي الشعرية، فالشاعر له شطحات، لا توقفها الحدود الديبلوماسية الباردة، ولا تخفيها الابتسامات المرسومه قسراً على الوجوه. أما كوابيس الشاعر فقد ظهرت جلية في كتابيه "العصفورية" و"سبعة"، وهي حقيقة منتقاة من كوابيس آتية من الفضاء المحيط وتطورات هذا الفضاء البالغ التعقيد، لتصبح رواية في شكل سرد له أكثر من مستوى في المعنى، يستطيع القارئ أن يقراها بأكثر من قراءة، ويعطيها أكثر من تفسير. أما لؤم البيروقراطي، فقد اختار الكلمة المناسبة لوصف ذلك الإنسان المتلبد ب"اللؤم" حيث أن البيروقراطي ترفضه نفس الشاعر والروائي، وترفض هذا التلون المثقل بالزيف، لذا كان غازي في بيروقراطيته مثالاً وقائداً للعمل المهني أكثر منه متحكماً جامداً. هناك مفاتيح في شخصية غازي القصيبي أجدها أولاً في عناوين كتبه، فهو يستخدم العنوان استخداماً وظيفياً، مثل لعبه على كلمة "حرية" في روايته "شقة الحرية"، التي تكاد تكون سيرة طبق الأصل مع اختلاف التفاصيل، لحياة أبناء الخليج الذين أموا مصر للدراسة في نهاية الخمسينات وبداية الستينات، فالحرية هنا لها أكثر من معنى، حرية مطلقة وإنسانية، وحرية بمعناها المختبئ، الذي يجعل من الشقة المذكورة "وكراً" للتعاطي غير المسموح به والمحرم للمتعة الآثمة. ومن هذا الاسم "الحرية" استخدم غازي الرمز، حيث نجد أن بعض بلاد الخليج كان يطلق على المناطق التي تستقر فيها النساء المفردات، والمسموح لهنّ بمزاولة التجارة الأقدم في التاريخ بحي الحرية! هذا الاستخدام المزدوج للحرية له معنى عميق لدى المتابع لصيرورة العمل السياسي في محيط غازي الخليجي. لعلي اكتشف في أعمال غازي القصيبي نوعاً من العمل السوسيولوجي على رغم أن تكوينه العلمي هو القانون، ففي كتابة "سنوات في الإدارة" في عمقه التحليلي، يتناول العمل الإداري من ذاك الجانب المهم لتحليل العلاقات البشرية في صفائها وفي عتمتها، في "لؤمها" وتسامحها، في فهمها وغفلتها. كما أجد احد مفاتيح شخصية غازي في ما يسطره في مقدمات كتبه كإهداء أو حَكم شعرية يبدأ بها الكتاب، وفي الغالب هي استشهاده بأبيات مختارة من شاعره الأثير أبو الطيب المتنبي، الذي عاش يطلب السلطة، ولم ينتبه انه خلد من هم في السلطة وربما غيرهم بما روى من شعر، أكثر مما لو كان هو نفسه قد حصل على السلطة، لو كف لسانه عن رواية الشعر، فما كان ليذكره احد ولا ليذكر التاريخ شخصياته. يقول غازي في أحدى مقدمات كتبه: "تولوا بغصة منه/ وان سر بعضهم أحياناً". صحيح أن هذا البيت للمتنبي، ولكنه ينطبق على رؤى صاحبنا، فما يصادفه من نقد هو غصة في حلوق الآخرين، أساسها ما يسطره في أعماله الثقافية، وليس بسبب شيء آخر، وان سر بعضهم ما يكتب، فهو سرور يأتي في بعض الأحيان، وليس حتى في معظم الأحيان. علينا هنا أن ندرك أي الجماعات صفقت لغازي، وأي الجماعات رجمته بالكلمات. فمن صفق له، جاء التصفيق في كثير من الأحيان من المكان الخطأ، ومن رماه بحجارة الكلمات، فقد كانت نفسه مملوءة غصة مما يمثله غازي من فكر ورؤى. لأن ما يملكه الأول من بدائل هي قليلة أن وجدت، وغير قادرة على الإقناع أو مسايرة العصر، فغازي القصيبي يمثل لطائفة كبيرة من أبناء الخليج ذلك المنفتح على العالم، وأكاد أقول الحداثي الملتزم. تستطيع أن تجد في من انتقد أعمال غازي القصيبي الكثير مما كُتب، بل هناك كتب طبعت في معارضة أفكار غازي معارضة غير موضوعية، ولكنك ستحصل على القليل من الرضا العلمي في هذه الكتابات. فكثير ممّن انتقده بنى ذلك النقد على أهواء شخصية، كأن يكيل كلمات الذم من دون دليل أو بديل، وستذهب مثل تلك الكتابات، ويبقى عمل غازي الثقافي يتحاور حوله كثيرون. لعلني أرى في إنتاج غازي الكثيف الذي يقدمه للمكتبة العربية شعوره، الحقيقي أو ربما غير الواضح، بأهمية الزمن استراتيجياً. فالزمن لديه بالغ الوضوح وكثير الدلالات في بعض ما كتب، فهو يتحدث عن سنه في أكثر من مكان في كتبه أو في أشعاره. وقد هلع عندما بلغ الخمسين، ولكنه نسبياً سكت عندما بلغ الستين، أو قل لم يعد يعطي السن ما كان يعطيه من أهمية بعدما قرر أن ينتج من دون قيد بيروقراطي. وأما الزمن الاستراتيجي فهو حريص عليه ويظهر عند غازي في كثافة إنتاجه المتواصل من جهة، وفي تنظيم وقته من جهة أخرى. بعض إنتاجه قليل الصفحات وبعضه الأخر كثير الصفحات، ولكن هذه الغزارة في الإنتاج تعني أن غازي ينظر إلى الزمن نظرة "استراتيجية" يعرف أن عليه أن يقول ولا يصمت لأن الصمت هو الموت، وهو كشاعر وفنان، وهذه احدى خاصات الشطحات، يرغب في أن يكون هنا، وفي بؤرة الحدث، وليس هناك خلف كرسي بيروقراطي عليه أن يرسم على شفتيه ابتسامة متحجرة، حتى لو دفع ثمناً لذلك عدم الرضا. الكثير مما يعرف عن غازي تناوله المحللون والكتّاب، أما شخصيته كراو للملح و"القفشات" فقد تجلت للخاصة من أصدقائه، وخصوصاً مداعباته مع شاعر البحرين محمد رفيع أو مع أصدقائه الآخرين وهم كثر، وهو رجل لا ينسى، وقد اخذ بعد مرور الزمن يروي تلك القصص والقفشات ولا يمانع من أن يزيد عليها بعض البهارات. أتراني أنصفت غازي بهذه الكلمات، أم تراني ظلمته، أم كلانا ظلم بطلب الصديق عبده وازن الذي تمنى عليّ أن أكتب عن غازي القصيبي؟ ذلك أمر يقرره قارئ هذه الكلمات.