كما نحب الأصدقاء القدامى أحب غازي القصيبي، تعرفت على قصائده ومقالاته في مرحلة مبكرة من حياتي ووقعت في أسر سحره الكبير. غازي القصيبي كثيرًا ما تحدّث عن شعره قائلاً إنه شعر متوسط المستوى، ولن يخلد منه الكثير. لكنه عندما يأخذه كبر الشعراء يقول: أنا شاعر الأفلاك كل كليمة مني على شفق الخلود تلهب والحقيقة أن غازي القصيبي، وعلى مستوى الشعر السعودي على الأقل هو أحد المجددين المهمين والكبار سواء من خلال قصائده العمودية الجميلة، أو من خلال قصائد التفعيلة التي، وبعيدًا عن حكاية الريادة يكاد يكون من أوائل من كتبها بحرفية عالية وفن وجمال. أعود إلى ما يخصني من الرجل الكبير.. قرأته في سن مبكرة من حياتي.. تلك السن التي تخليت فيها عن قراءة قصص المغامرات البوليسية والقصص المصورة لأبطال لا يقهرون.. وبدأت أطالع ما أجده من أشعار نزار قباني ثم قصائد القصيبي في ديوان أشعار من جزائر اللؤلؤ.. وديوان معركة بلا راية، ثم ديوانه الأجمل في نظري العودة إلى الأماكن القديمة.. مع مقالاته الساحرة التي كان يكتبها بين فترة وفترة والقصيبي في نثره لا يقل إبداعًا ولا جمالاً عن شعره.. الكاتب الذي يتحوّل إلى صديق هو ذلك الذي تشعر أنك تعرفه من خلال ما يكتب.. والقصيبي من هؤلاء الأصدقاء .. الأصدقاء الذي شكّلوا الكثير من الوعي بالحياة والحب والجمال والأهم الوعي بالإنسان في حالاته المتناقضة. من خلال نثر الرجل الكبير تعرفت على أصدقاء آخرين.. ربما يكون أهمهم إبراهيم ناجي وربما يكون أخطرهم وأكثرهم استمرارية، وقدرة على المعاصرة المتواصلة أبو الطيب المتنبي. الكاتب المؤثر هو ذلك الذي لا يتوقّف عن أخذك معه إلى مكامن الجمال والمعرفة والقصيبي ربما يكون على المستوى المحلي هو أكبر المؤثرين والمهمين ثقافيًّا. قرأت سيرة شعرية.. وقرأت فيما بعد التنمية وجهًا لوجه.. تعرفت على شخصية أخرى من شخصيات الرجل الكبير.. التنموي الممتلئ بالحماس والرغبة والإخلاص في رؤية بلده أجمل.. التكنوقراطي المؤمن بفكرة التدرج في التغيير نحو الأفضل والمؤمن بفكرة أن التنمية تأتي قبل كل المطالب الثورية التي يحبها الثوريون والمتهورون والأقل بصرًا وبصيرة. المثقف الموسوعي والواعي بشكل كبير لحركة المجتمعات وتبدلاتها، المثقف الممتلئ بأحلام وطنية ربما اعتبرت في يوم من الأيام ضربًا من الجنون. قرأت القصيبي الروائي فيما بعد.. وكأنما جمرة الشعر خفتت لديه بعدما ابتعد استسلم للعمر الذي يمضي والأيام التي تهرب بعيدًا من تحت أقدامنا. سمراء هل يرجع الماضي إذا رجعت رؤاه تخطر بين القلب والهدب وهل أعود صبيًّا كله خجل.. وهل تعودين بنتًا حلوة الشغب قرأت القصيبي الروائي وكلي يقين مهما خالفني الأصدقاء بأن القصيبي هو من فتح الباب الموارب على مصارعيه للكثير من الحالمين بكتابة الرواية لكي يدخلوا معه بكل هدوء.. قبله كانت الخشية تكبل البعض.. وكان المجتمع المحافظ يكبل البعض.. وكان الخوف من كتابة الحياة بكل ما فيها من صدق وزيف ومن خير وشر يخيف البعض الآخر.. شقة الحرية لم تكن فتحًا روائيًّا من جهة الأسلوب.. لكنها كانت فتحًا كبيرًا من جهة الموضوع، وكأنما هي تقول للآخرين أدخلوا هذا هو الباب.. مع كل اليقين طبعًا بأن هناك من ولجوا من الباب الضيق قبل القصيبي ومعه لكنه كان كما هو دائمًا أكثر تأثيرًا وأشد وقعًا. ماذا فعل القصيبي بعد ذلك؟ كتب العصفورية.. لم يضع عليها كلمة رواية.. ترك الآخرين يسهرون جرّاها ويختصمون. العصفورية تكفي القصيبي سرديًّا وتمنحه تميزه المختلف.. وإذا كان في الشقة مضى على طريق الرواية المرصوف قبله فإنه في العصفورية شقّ طريقًا مختلفًا يخصه وحده.. وإذا كان القصيبي كالكثير من الكبار في عالم الأدب تشغله قضية الخلود.. فالعصفورية ستبقى على شفق الخلود تلهب. ولن يضر القصيبي بعدها ما كتبه من روايات متوسطة أو حتى ضعيفة.. ما الذي يدفعني لهذه الكتابة؟ بكل صدق هي تلك الغصة التي شعرت بها وأنا اسمع إشاعة وفاة الرجل الكبير.. لكن الحمد لله أنها ليست سوى إشاعة سخيفة، وعسى الله أن يمنّ على أبي سهيل بالشفاء والصحة، ونقرأ له مجدّدًا قصائد تمتلئ بالحب والحنين أو روايات لا تخلو من سخرية ساحرة تخصه وحده.. وحده فقط.