عرفنا من قبل، صوتاً وصورة، ان اطرافاً فاعلة في الإعلام الأميركي بدأت منذ الساعات الأولى لأحداث 11 ايلول سبتمبر 2001 في دحرجة الاتهام نحو عرب ومسلمين. عرفنا ايضاً من كتب أميركية وغير أميركية انه في الصباح التالي مباشرة لهذه الأحداث اجتمع الرئيس بوش بكبار مساعديه ومستشاريه مرتين فانقسمت الآراء بين فريقين: أحدهما يرى ان يكون الرد هو ضرب افغانستانوالعراق، وفريق يرى أن يؤجل العراق الى مرحلة لاحقة فيما يركّز أولاً على أفغانستان و"طالبان" وأسامة بن لادن... الخ. الرئيس الأميركي انحاز للفريق الثاني، وكل هذا قبل أي تحقيقات في ما جرى، وحتى قبل أن تستوعب الحكومة الأميركية حقائق ما جرى. اختارت الإدارة الأميركية منذ الساعات الأولى ان تؤكد للشعب الأميركي أن ما جرى في نيويوركوواشنطن هو "عدوان خارجي". وهو الرأي نفسه الذي طلبت الإدارة على أساسه مساندة كاملة لها من شركائها في حلف شمال الاطلسي فأعطاها الحلفاء المساندة التي تريدها سياسياً من دون أن يعني هذا مساندتها عسكرياً قبل معرفة الحقائق - كل الحقائق. واختار ديك تشيني نائب الرئيس الأميركي أن يكون في مقدم مستشاريه في تلك المرحلة برنارد لويس - المعروف بسمومه الثابتة ضد كل ما هو عربي وإسلامي - فجعله عضواً متكرراً في اجتماعات برئاسته، بحجة انه مؤرخ وخبير في شؤون الإسلام والمسلمين. وفي تلك الاجتماعات أكد لويس بإلحاح ان الفرصة أصبحت ذهبية أمام أميركا لتضع يديها نهائياً على العراق، تحت عنوان تخليص الشعب العراقي من القمع والاضطهاد. عرفنا ايضاً انه بعدما فرغت الإدارة الأميركية من حملتها العسكرية في افغانستان وحولت تركيزها الى ضرب العراق شعر كثيرون من اعضاء الحزب الديموقراطي المعارض بأن هذا التحول المفاجىء غير مقنع. وعندما فكرت الإدارة بإعطاء بعض بياناتها السرية في اجتماعات مغلقة لعدد مختار من قيادات الكونغرس خرج الديموقراطيون مرة بعد أخرى ليقولوا انهم "لم يستمعوا الى أي شيء جديد" يقنعهم بأن العراق الآن أكثر خطورة مما كان عليه قبل سنوات سابقة. بل إن دونالد رامسفيلد وزير الدفاع الأميركي عندما وافق في الرابع من أيلول الماضي على استقبال عدد محدود من اعضاء مجلس الشيوخ للاستفهام عن موضوع العراق فاجأهم بأنه سيقول لهم ما يريده لكنه لن يسمح لهم بتوجيه أي اسئلة. عند هذا الحد بادر بعض اعضاء مجلس الشيوخ الحاضرين الى مغادرة الاجتماع لأنهم - وهم المشرعون والرقباء دستورياً على اداء الإدارة - لم يأتوا الى حصة استماع. عرفنا كذلك ان كوندوليزا رايس مستشارة الرئيس الأميركي للأمن القومي ركزت في اجتماع محدود في نيسان إبريل الماضي على أن "زلزالاً بضخامة أحداث 11 ايلول لا يمكن ان يؤدي الى تحول كامل في الهيكل المعماري لكل السياسات الدولية" و"أن النظام الدولي كان في حال سيولة منذ انهيار القوة السوفياتية، والآن من الممكن - بل إنه من المحتمل - أن يصل هذا التحول الى نهايته. اذا كان هذا صحيحاً فهذه اذاً، ليست فقط فترة من الخطر الفادح ولكنها ايضاً فترة من الفرصة الضخمة، فترة قريبة الشبه بما جرى عالمياً بين سنتي 1945 و1947 عندما وسعت القيادة الأميركية قاعدة الدول الحرة والديموقراطية، واليابان والمانيا هنا نموذجان، لخلق توازن جديد للقوى لصالح الحرية". بكلمات أخرى غير ديبلوماسية: "الآن فرصة أمام أميركا لإعادة تشكيل العالم على هواها ولحسابها، وهو ما ورد تفصيلاً بعد ذلك في "استراتيجية الولاياتالمتحدة للأمن القومي" التي جرى نشرها في العشرين من أيلول الماضي. ولكن قبل نشر تلك الاستراتيجية، بل في الواقع منذ مجيء هذه الإدارة الى السلطة في كانون الثاني يناير 2001 وهي تتحرك منهجياً لتغيير "الهيكل المعماري" لكل السياسات الدولية. فمنذ البداية قطعت المفاوضات التي أجرتها إدارة بيل كلينتون السابقة بنجاح مع كوريا الشمالية، وأوقفت دورها في المفاوضات المتعثرة بين إسرائيل وسلطة الحكم الذاتي الفلسطيني واتجهت الى الانسحاب من طرف واحد من معاهدة 1972 مع موسكو لتثبيت التوازن الصاروخي الاستراتيجي، ورفضت بروتوكول كيوتو للبيئة، وأوقفت سلسلة من المعاهدات الدولية للحد من التسلح، ودعت الى إقامة نظام جديد للدفاعات الصاروخية في الفضاء. وباختصار فإن الرئيس والإدارة سعيا من البداية إلى قلب القواعد التي حكمت الحياة الدولية طوال الأعوام ال50 الماضية على حد تعبير انتوني لويس وآخرين. لم يأتِ كل هذا من فراغ. فقبل عشر سنوات حينما كان تشيني وزيراً للدفاع وبول وولفوفيتز مساعداً له في عهد الرئيس جورج بوش الأب حاول الاثنان وضع عناصر عقيدة أميركية جديدة لعالم جديد تكون واشنطن مركز قيادته والسيطرة عليه. وعندما جاء جورج بوش الابن الى السلطة ومعه ديك تشيني نائباً له ووولفويتز نائباً لوزير الدفاع، بدأ استكمال عناصر العقيدة المؤجلة. دخل جورج بوش الابن الى البيت الأبيض بشرعية سياسية ناقصة ومثيرة للجدل، وهو ما جعله رهينة في درجة أكبر لمجموعتين من أقوى المصالح النافذة في واشنطن: مجموعة شركات النفط ومجموعة الصناعات العسكرية. وهذه المجموعة الاخيرة هي نفسها التي كان الرئيس الراحل دوايت ايزنهاور حذر في خطابه الرئاسي الاخير من خطورة سيطرتها على السياسة الأميركية قبل 40 عاماً. وبعد أحداث 11 أيلول كانت هناك فرصة كبرى للتعجيل بصهر العناصر المتفرقة السابقة في عقيدة واحدة شاملة، خصوصاً أن مواجهة تلك الأحداث وعواقبها تعطي للرئيس بوش شرعية كاملة بديلاً من الشرعية الناقصة سياسياً. وحتى صباح 11 أيلول كانت هناك ملفات جاهزة، منفصلة عن بعضها بعضاً ولكل ملف دواعيه وملابساته وعوامله الحاكمة، ملف لأسامة بن لادن وتنظيم "القاعدة"، وملف لأفغانستان، وثالث للعراق، ورابع لكوريا الشمالية، وخامس لإيران... الخ. فقط بعد الساعات الأولى لأحداث 11 أيلول اصبح ممكناً دمج كل تلك الملفات معاً والانطلاق منها الى صوغ العقيدة الجديدة الشاملة تحت عنوان حرب عالمية ضد الإرهاب مع إصرار أميركي على ترك تعريف الإرهاب عائماً ومطاطاً بما يسمح للإدارة بإضافة أهداف جديدة وتشكيل تحالفات جديدة في كل مرحلة. روسيا مثلاً كانت مهمة في تسهيل غزو أفغانستان، لكن لمجرد انتهاء الحملة العسكرية الأميركية لم يجد الرئيس الأميركي كلمة شكر واحدة يوجهها لروسيا في خطابه عن "حالة الاتحاد" ولم يشكر ايضاً دولاً أخرى بخلاف باكستان باكستان نفسها مؤجلة لمرحلة تالية. إيران التي كانت مساعدتها حيوية لتشكيل الحكومة الجديدة في افغانستان اصبحت مستبعدة بالكامل في المرحلة التالية، بل وجزءاً معلناً من "محور الشر" المعلن أميركياً. السعودية التي جرى الإلحاح عليها للمساهمة مالياً في تعمير ما خرّبته ودمرته أميركا في أفغانستان اصبحت مستهدفة اعلامياً وسياسياً حتى تذعن للمرحلة التالية من "عقيدة بوش". مصر التي تعاونت مع أميركا لمكافحة الإرهاب قبل 11 ايلول وأثناءه وبعده اصبح أقل كاتب أميركي يهددها بين صباح وآخر بقطع المعونة الأميركية عنها اذا لم تصبح جزءاً من القطيع الجديد. العراق الذي كان ملفه مؤجلاً في الصباح التالي لأحداث 11 ايلول جرى الالتفات اليه بتركيز شديد باعتباره الهدف المُلح التالي مباشرة. مبكراً في الإعداد تلك المرحلة جرى تسريب معلومات لربط العراق بتنظيم "القاعدة" وأسامة بن لادن بدءاً بمقابلة قيل انها جرت بين مسؤول في السفارة العراقية في براغ وأحد المنسوب اليهم إرهاب 11 ايلول. وفي ما بعد عرفنا ان فاكلاف هافيل رئيس جمهورية تشيخيا فاجأته تلك المعلومات المنسوبة الى حكومته فحقق فيها واكتشف انها من تأليف رئيس وزراء سابق مشكوك في دوافعه وارتباطاته السياسية. اختار هافيل ابلاغ كولن باول وزير الخارجية الأميركي تلك المعلومات بعيداً من العلانية ومعها التأكيد بأن كل أجهزة الأمن والاستخبارات في تشيخيا تنفي تلك القصة الملفقة جملة وتفصيلاً. عند ذلك توارى ملف العراق قليلاً ليعود الى الأضواء بقوة في اول أيلول الماضي، في حينها شكك المعارضون في الحزب الديموقراطي في دوافع الإدارة لجعل الحرب ضد العراق هي موضوع الساعة المسيطر على الانتخابات النصفية للكونغرس بدلاً من المطلب المُلح للمواطنين الأميركيين وهو حال الاقتصاد الأميركي. مع ذلك اضطر الديموقراطيون لمسايرة الإدارة خشية اتهامهم بنقص الوطنية، وهي التهمة التي جلعها الجمهوريون سيفاً مصلتاً على رقاب المعارضين. وعندما أصبح آل غور النائب السابق للرئيس كلينتون اول صوت ديموقراطي يعارض توجه الإدارة لضرب العراق جرت محاصرته بسيل من الشتائم غير المألوفة سابقاً في الخطاب السياسي والإعلامي الأميركي. وفي مقال واحد مثلاً وصف الكاتب الأميركي خطاب آل غور بأنه "هابط.. أجوف.. مخادع.. بائس.. حقير.. وضيع.. خسيس.. مملوء بالاكاذيب". أما برنت سكوكروفت مستشار الامن القومي السابق في عهد الرئيس بوش الأب فخصصت له جريدة "وول ستريت جورنال" واحداً من أعنف مقالاتها الافتتاحية لمجرد تحفظات ابداها عن الربط بين العراق وتنظيم "القاعدة" والتوجه الى ضرب العراق بانفراد أميركي. لم تكن الإدارة الحالية تتعامل برعونة مع معارضيها فقط، وانما تتعامل بخشونة غير مسبوقة مع الكونغرس ايضاً. في البداية قالت إنها ليست محتاجة الى تفويض جديد من الكونغرس بشن الحرب على العراق، وبعدها وضعت الشروط تلو الشروط لتذهب الى الكونغرس، وفي ذهابها رفضت، حتى في الاجتماعات المغلقة، إعطاء أي معلومات أو أسباب حقيقية تفسر لماذا يصبح العراق الآن - وهو تحت الحصار الصارم منذ 12 سنة - خطراً لم يكن عليه أبداً قبل سنوات. هذا وغيره دفع إحدى الكاتبات الأميركيات الى أن تسجل صراحة: "ان إدارة بوش هذه قد تكون اكثر الإدارات الأميركية انغلاقاً بقدر ما تعي الذاكرة". الموال نفسه كررته الإدارة في التعامل مع مجلس الأمن والأممالمتحدة وبعد شهرين من المساومات الدولية نجحت الإدارة فعلاً في استخراج قرار من مجلس الأمن هو في الواقع أعجب قرار على الإطلاق منذ قيام الأممالمتحدة كمنظمة دولية عام 1945. ولم يكن سياسياً بارزاً ولا كاتباً مرموقاً ذلك القارىء الأميركي الذي علق في بريد القراء بجريدته المفضلة قائلاً: "ان أميركا بالقرار 1441 تريد أن تحصر صدام حسين بين خيارين: إما ان تقر بأنك محتال فيحق عليك الضرب وعلى بلدك الدمار، أو ترفض تقديم الأدلة على أنك محتال فيحق عليك الضرب ايضاً وعلى بلدك الدمار لأنك غير متعاون مع الأممالمتحدة". وفيما تدق أميركا طبول الحرب ضد العراق فإنها من الآن تنذر العالم كله بملفاتها التالية الجاهزة مسبقاً. هناك ايرانوكوريا الشمالية وليبيا والسودان وسورية ولبنان، كل من مدخل مختلف وإن يكن تحت العنوان الجامع المانع نفسه. هناك قبل هذا وبعده مصر والسعودية. هناك بالموازاة سباق جديد للتسلح تفرضه واشنطن في الفضاء بحجة أن هذا يجعل أميركا أكثر أمناً في عالم أصبحت تتجبر عليه يوماً بعد يوم. من الغريب، وبعكس كل ما يروجه الإعلام الأميركي زاعق الصوت، أن هذا العام نفسه هو الذي يساعد الاقتصاد الأميركي على الصمود حتى الآن ويمنعه من الانهيار. لقد وصل جورج بوش الى السلطة وهناك فائض متراكم بدأ يتحقق في الموازنة للمرة الأولى في السنوات الأخيرة لبيل كلينتون. الآن تحول ذلك الفائض الى عجز والعجز يتزايد يوماً بعد آخر، وهذا العجز يتحمله الاقتصاد الأميركي حتى الآن لسبب واحد فقط هو تدفق أكثر من بليون دولار يومياً على أميركا من المستثمرين الاجانب افراداً انجذبوا الى الاداء الأميركي أو حكومات ملتزمة بالسوط الأميركي. لكن الفضائح المدوية كشفت في السنة الأخيرة عن غش غير مسبوق في قواعد اللعب نتيجته انهيار عدد من أكبر الشركات الأميركية العابرة للقارات. السهم الذي سجل في البورصة مئة دولار صباحاً اصبح بأقل من دولار واحد مساء فجأة. طبعاً هذا يعني ان حضرات المستثمرين الاجانب - أفراداً وحكومات - تبخرت أموالهم في لمح البصر. لكن داخلياً اصبح الأكثر أهمية هو اكتشاف المساهمين والمستخدمين في تلك الشركات الكبرى أن كبار المديرين في شركاتهم سرقوهم واحتالوا عليهم وعلى كل القوانين بالتدليس مع شركات كبرى لمراقبة الحسابات بعضها هو المعتمد لدى كثير من حكوماتنا لتقديم المشورة في صوغ السياسات الاقتصادية. وفجأة يكتشف المواطن الأميركي العادي أن هؤلاء المديرين الكبار استمروا في الغش والاحتيال فقط لأنهم قاموا سابقاً برشوة سياسيين كبار في مناصب رفيعة في الإدارة الأميركية الحالية. كتب فيليكس روهاتين الرئيس الاسبق لبورصة نيويورك اخيراً يقول بمرارة: "انني شخصياً أؤمن بأن رأسمالية السوق هي أفضل نظام اقتصادي جرى اختراعه لتوليد الثروة، لكن لكي يحدث ذلك يجب على هذا النظام أن يكون منصفاً وخاضعاً للضوابط وأخلاقياً. وهذه التجاوزات الفاضحة التي انكشفت اخيراً تظهر أن هذا النظام فشل في كل المجالات الثلاثة، وهذا يثبت ان الرأسماليين هم وحدهم الذين يستطيعون قتل الرأسمالية". والآن، بتصدير إرهاب 11 أيلول الى أطراف خارجية، وإخراس الانتقادات الداخلية، وفرض استراتيجية همجية تنسف من الأساس قواعد الحياة الدولية، واستخدام الآلة العسكرية الأميركية الضخمة لضرب شبه دولة كأفغانستان وبقايا دولة كالعراق، تكون الإدارة الأميركية الحالية خلقت لنفسها شرعية بديلة، واستعادت لنفسها ولحزبها غالبية ناقصة في مجلسي الكونغرس. لكن فداحة الثمن ستفرض نفسها في نهاية المطاف. ولن يمنع نفط العالم كله الناخب الأميركي من فرض الاسئلة الصحيحة على انتخابات الرئاسة الأميركية المقبلة، وحتى وقتها لن تصبح أميركا أكثر أمناً بحائطها الصاروخي الفضائي الجديد، ولا باحتلال العراق، ولا بوضع مواطني 26 دولة عربية وإسلامية تحت مقصلة الاشتباه الدائم والمروع، ولا بما يستجد لها من أهداف. * نائب رئيس تحرير "أخبار اليوم" القاهرية.