انحشر عاطف الشاعر 45 عاماً وزوجته وأولاده في غرفة واحدة من منزل أحد أقاربه مع قليل من الفرشات والأغطية والأدوات والأواني المنزلية التي انتشل بعضها من بين أنقاض منزله الذي هدمته قوات الاحتلال الإسرائيلي، أو أعطته إياها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين اونروا. ولا يملك الشاعر، الذي يعاني من ضعف شديد في النظر، ومسجل كحالة عسر شديد لدى "اونروا" المال لاستئجار منزل أو شقة للإقامة فيها بعد هدم منزله في الثاني من الشهر الجاري. ومنزل الشاعر المكون من اربع غرف وشيدته "اونروا" عام 95 على نفقتها بسبب فقره الشديد، واحد من ثمانية منازل هدمتها جرافات الاحتلال في تلك الليلة الباردة، في حارة القصّاص في مخيم يبنا للاجئين المحاذي للشريط الحدودي الفاصل بين مدينة رفح في قطاع غزة ومصر. قال الشاعر ل"الحياة" بعدما عدل وضع نظارته الطبية السميكة على عينيه اللتين تكادان تختفيان خلفها جراء صغرهما: "أقيم في غرفة عند أقارب لي يقطنون قريبا من هنا" مشيرا بإصبعه إلى منزل يبعد عن الشريط نحو 200 متر. وأضاف وهو يودع بنظراته بيتر هانسن المفوض العام ل"أونروا" الذي زار مناطق عدة تقع على طول الشريط الحدودي: "هدموا المنزل فوق العفش الأثاث ولم آخذ منه شيئا... كل شيء بقي كما هو، ولا املك مالا كي استأجر شقة أو منزلا في المدينة". وعلى رغم أن مدينة رفح شهدت نزوح كثير من العائلات المقيمة فيها إلى مدينة غزة بحكم ضرورات العمل أو الدراسة، فان أسعار الشقق السكنية فيها شهدت ارتفاعا ملحوظا خلال العامين الماضيين، إذ تصل أجرة الشقة شهريا ما بين 100 و250 دولارا أميركيا، علما انها لم تكن تتجاوز 100 دولار في أسوأ الأحوال. وتغيرت مجريات حياة الشاعر، مثله مثل الآلاف غيره، في أعقاب هدم منزله الذي لم يكن يملك في الدنيا غيره. وبدا الشاعر أكبر من سنه، والهم ينهش صدره وتفكيره، وهو لا يكاد يتدبر أموره وأمور عائلته بعد هدم منزله، ولا يملك ما يعيل به أطفاله سوى ما تقدمه له "اونروا" من مساعدات شهرية تقدمها عادة ل"حالات العسر الشديد" التي تعتبرها الأكثر فقرا في القطاع. وحسب تقارير البنك الدولي وعدد من المنظمات الدولية فان محافظة رفح البالغ عدد سكانها نحو 150 ألف نسمة، ويقع اكثر من نصف مساكنها على طول الشريط الحدودي، تعتبر الأكثر فقرا بين محافظات الضفة وغزة. وتصل معدلات البطالة والفقر إلى اكثر من 70 في المئة في المحافظة المحاصرة من الجهة الجنوبية بالشريط الحدودي ومن الجهتين الغربية والشمالية بالمستوطنات اليهودية، ومن الجهة الشرقية بخط الهدنة الذي يفصل أراضيها عن أراضى عام 48. وكثفت قوات الاحتلال عمليات هدم المنازل خلال العام الماضي، والتي كانت بدأتها في أعقاب اندلاع انتفاضة الأقصى في أيلول سبتمبر 2000. وهدمت جرا فات الاحتلال في المحافظة 65 منزلا الشهر الماضي حسب إحصاءات لجنة حصر الأضرار في محافظة رفح. وتشير هذه الإحصاءات إلى أن قوات الاحتلال هدمت كلياً منذ اندلاع الانتفاضة وحتى نهاية تشرين الثاني نوفمبر الماضي نحو 522 منزلاً كما هدمت جزئياً نحو 230 منزلاً، فضلاً عن هدم 106 منازل معظمها يقع قرب بوابة صلاح الدين، التي تقيم عندها قوات الاحتلال موقع "ترهيت" العسكري المسؤول عن قتل نحو 80 في المئة من شهداء المحافظة البالغ عددهم حوالى 220 شهيداً . ومثله مثل الشاعر لا يعرف توفيق حسن الأخرس 44 عاماً الذي هدمت قوات الاحتلال منزل عائلته الكبير الذي يقيم فيه مع ستة من أشقائه المتزوجين قرب معبر العودة الحدودي، ما يخبئه لهم المستقبل ولا كيف سيتدبر أموره في مقبل الأيام، على رغم أن الشاعر والاخرس، آخر من هدمت منازلهم، طرقا أبواب محافظ المدينة ووزارة الإسكان وكل الهيئات الرسمية والأهلية لمساعدتهما على الخروج من ضائقتهما وإعادة اسكانهما في منازل ملائمة ، لكن من دون جدوى. ويثق كثير من هؤلاء ب"اونروا" ووعودها وقدراتها ويشككون في المقابل بالسلطة الفلسطينية ووعودها "الزائفة" على حد قولهم. وتعتبر "اونروا" التي تأسست عام 1950 اثر نكبة فلسطين مسؤولة عن إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في خمس مناطق عمليات من ضمنها الضفة وغزة، إضافة إلى سورية ولبنان والأردن. وفي أعقاب اندلاع الانتفاضة وبدء سياسة هدم المنازل، شرعت "اونروا" في البحث عن حلول وأموال لحل هذه المشكلة. لكن المشكلة ازدادت تعقيدا مع زيادة عدد المنازل المهدومة. وقالت كارين أبو زايد من "اونروا" ل"الحياة" ان "الوضع اصبح صعبا جدا... ففي السابق كان يتم هدم منزل أو اثنين أما الآن فتدمر عشرات المنازل في ليلة واحدة، وهذا يلقي على كاهل اونروا الكثير من الأعباء"، مشيرة إلى أن "اونروا" تتقدم "باحتجاجات قوية إلى الجانب الإسرائيلي لان من المستحيل أن يستمر هذا الوضع بهذه الصورة". وتقول إحصاءات "اونروا" ان قوات الاحتلال هدمت في قطاع غزة إبان الانتفاضة 717 منزلا تقطنها 1067 عائلة تتكون من 5887 لاجئا هدما كليا، كما هدمت جزئيا 787 منزلا يقطن فيها 1007 عائلات، تتكون من 5880 لاجئا، في حين لحق تدمير كبير ب 43 منزلا كانت تقطنها 58 عائلة ولا يستطيع أحد الوصول إليها. وأشارت ابو زايد إلى أن "اونروا" تقدم لهذه العائلات مساعدات نقدية فورية تراوح بين 1000 و1500 دولار، فضلا عن مساعدات عينية مثل فرشات وبطانيات وأدوات منزلية ومواد غذائية. وشيدت "اونروا" 97 منزلا بديلا في حي تل السلطان في رفح وسلمتها لأوائل اللاجئين الذين هدمت منازلهم، وستواصل بناء المنازل في مختلف مناطق القطاع، بعد تحديد المناطق المناسبة وبالاتفاق مع المتضررين . ولفتت أبو زايد إلى أن "اونروا" تعاني عجزا ماليا كبيرا، مشيرة الى انها أطلقت نداء استغاثة جديدا مطلع الشهر الجاري بقيمة 200 مليون دولار لتمويل المتطلبات الطارئة خلال الأشهر الستة المقبلة. وقالت أبو زايد: "اوضاع اللاجئين تتدهور بصورة غير معقولة ونحن نطالب العالم بأن يستمع إلينا ويتحرك لنجدة مجتمع اللاجئين الفلسطينيين قبل أن تحل كارثة بهم ستكون لها أبعادها في المنطقة". وطالبت الدول العربية ب"دفع ما قررته جامعة الدول العربية من موازنة اونروا البالغة نحو 7.8 من الموازنة السنوية العادية البالغة 314 مليونا"، مشيدة بدولة الإمارات العربية المتحدة "كمثال للتعاون والدعم لأونروا"، في إشارة إلى تمويل بناء 800 وحدة سكنية في مخيم جنين على نفقة الإمارات.