سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
قليل من الاوروبيين يحاولون حمايتهم... والاحياء مقفرة وكأنها بقايا زلزال . عشرات الاسر في رفح تعيش في انتظار هدم بيوتها: قصف في الليل وجرافات في النهار واطلاق نار لا ينقطع
سحبت أم عطا الشاعر 65 عاما طرف غطاء رأسها الطويل، بيدها اليمنى وغطت وجهها باستثناء عينيها وقالت بأسى: "لا ننام سوى ربع الليل. ونخرج من المنزل عندما يأتي الجنود إلى منازلنا ونقول استر يا رب". وقفت أم عطا إلى جانب ابنها البكر عطا الذي اتكأ على عكازين واضافت: "كلما حضر الجنود والجرافات نقول استر يا رب فربما جاؤوا لهدم المنزل. وكلما جاءت الدبابات نخرج من المنزل بسرعة إلى مكان آخر خشية أن يقتلونا. أو يهدموا الدار فوق رؤوسنا". ويقع منزل العجوزين أبو عطا وأم عطا الشاعر في خط المواجهة الثاني في حارة الشاعر الواقعة شرق بوابة صلاح الدين المحاذية للشريط الحدودي الذي يفصل أراضي مدينة رفح في قطاع غزة عن مصر. وفي الصف الأول إلى الأمام من منزلهما يقع منزل ابنهما البكر عطا 44 عاما، الذي هدمت جرافات الاحتلال معظمه. وتحاذي أحياء العبور والسلام والبرازيل والشاعر وبلوك "أُو" وأجزاء من مخيم يبنا ، وحارة القصاص والبراهمة والشعوت وزعرب، الشريط الحدودي على التوالي بدءا من معبر رفح الحدودي جنوب شرقي المدينة وحتى مستوطنة "رفيح يام" جنوب غربي المدينة ، على امتداد لا يقل عن 5 كيلومترات. وعلى عكس الزوجين الشاعر وأبنائهما، الذين يرفضون النزوح عن منزلهم ، فان حسام وايمن ابني شقيق أم عطا فضلا النزوح عن المنزل واستئجار شقق سكنية في مناطق تقع في عمق المدينة، أكثر أمنا وأمانا على العيش في منزلهما في المنطقة التي تتحول ليلا إلى ما يشبه أفلام الرعب التي أخرجها الفريد هيتشكوك، على حد قول ايمن. ايمن الشاعر 35 عاما يعمل موظفا في أحد البنوك المحلية وقرر قبل اشهر عدة ترك شقته وسطح المنزل في منزل العائلة الذي يقطنه مع شقيقيه حسام وبهاء وأمهم، واستئجار شقة بمبلغ 150 دولاراً أميركياً، في حين يدفع حسام 200 دولار شهريا. وفارقت الابتسامة شفتي أيمن الوسيم الأنيق، وتلاشى البريق من عينيه بسبب الظروف التي مر بها، ولا يزال، وهو يرى شقته التي انفق على بنائها وتجهيزها 60 ألف دولار معرضة للهدم في أي لحظة عندما يقرر ضابط إسرائيلي هدم مزيد من المنازل الفلسطينية على امتداد الشريط الحدودي وتوسيع "الحزام الواقي" على طوله. يقول ايمن ل "الحياة": "أنفقت تحويشة عمري كله وما ادخرته من عملي في السعودية خلال سنوات، واقترضت أيضا 15 ألف دولار كي أعيش في شقتي حياة كريمة مع زوجتي وأطفالي". ويضيف: "الآن أرى كل شيء ينهار أمام عيني، ولا أحد يفعل شيئا أو يحرك ساكنا". وهناك مئات ، بل آلاف المنازل تقع في صفين على امتداد الشريط في انتظار الهدم. وأقيم الشريط الحدودي في الخامس والعشرين من نيسان أبريل 1982 بموجب معاهدة "كامب ديفيد" للسلام الموقعة بين مصر وإسرائيل عام 1979. وفي أعقاب ذلك ظلت آلاف من منازل الفلسطينيين في مدينة رفح التي قسمتها الأسلاك الشائكة إلى شطرين، قائمة على جانبي الشريط باستثناء عشرات منها تم هدمها أو الاستيلاء عليها من قبل قوات الاحتلال الإسرائيلي لوقوعها على الحدود مباشرة. ومنذ اشهر قليلة باشرت قوات الاحتلال إقامة "سور واق" من المعدن السميك على امتداد الشريط الحدودي بدءا من بوابة صلاح الدين التي تقع في منتصف المسافة تقريبا، متجهة غربا. وأنجزت قوات الاحتلال حتى الآن نحو كيلومتر واحد من أصل نحو خمسة كيلومترات، وبارتفاع يصل إلى نحو 8 أمتار عن سطح الأرض وبعمق 4 أمتار تحت الأرض، منعا لإطلاق النار على دبابات الاحتلال وآلياته وجنوده، وبهدف وقف حفر أنفاق اسفل الشريط تربط الأراضي الفلسطينية بالمصرية. ويتوقع خالد الابن الثالث لام عطا أن تهدم جرافات الاحتلال صفين من المنازل لا تزال قائمة بين الشريط وأحد شوارع المدينة الموازي لتصبح المسافة بين الشريط وأول منازل قبالته نحو 150 مترا. وعلى رغم أن لا أحد يعلم على وجه الدقة عرض المسافة الخالية من المساكن والمنشآت على امتداد الشريط المنصوص عليها في معاهدة "كامب ديفيد"، فان البعض يعتقد أنها 150 مترا، في حين قال آخرون انها 70 مترا، وقال البعض الآخر انها 100 متر. وفي كل الأحوال فان الفلسطينيين يرفضون بشدة سياسة هدم المنازل والتبريرات التي تسوقها سلطات الاحتلال لتسويغ جريمة الحرب. ومع ذلك، فقد يئس غالبية هؤلاء وأصابهم القنوط والإحباط وباتوا ينتظرون قضاء الله وقدره. وتقول أم عطا ان أبناءها فتحوا بابا خلفيا على منزل جيرانهم كبديل عن باب المنزل الرئيسي، كي يتمكنوا من الهرب عند قدوم قوات الاحتلال والجرافات. والأمر ذاته فعلته عشرات بل مئات من العائلات في منازلها، التي ما زالوا يقطنونها على رغم الأهوال والموت المحدق من كل جانب بسبب عدم امتلاكهم أي خيارات أخرى. وأخلت عشرات من العائلات منازلها وأفرغتها من الأثاث وكل الموجودات الأخرى تحسبا لهدمها في أي وقت ، في مشهد بدت معه المنطقة في ظل ركام المنازل المدمرة وكأن زلزالا ضربها وحولها إلى منطقة منكوبة. وعلى عكس هؤلاء يعتقد وليد المغير 42 عاما الذي يقطن في حي البراهمة أن منزله الذي هجره وبقي وحيدا في مواجهة الشريط الحدودي والدبابات والجرافات الإسرائيلية، لن يهدم في المستقبل إذا لم تقدم قوات الاحتلال على هدمه خلال الأيام المقبلة بسبب اقتراب العمل في السور الواقي منه. وتسلل وليد إلى منزله من باب خلفي، كي يطلع مراسل "الحياة" على المشهد من المبنى المكون من ثلاث طبقات ويقطنه وأشقاؤه الأربعة وزوجاتهم وأطفالهم وشقيقته، وعددهم 37 فردا. وبدا المشهد مرعبا من سطح المنزل المطل على الشريط الحدودي، خصوصا عندما كانت إحدى الدبابات التي ترفع راية ملوثة باللونين الأحمر والأزرق تقف على أهبة الاستعداد قرب المهندسين والعمال العاملين في السور. وعلى بعد أمتار قليل جلس اثنان من الأوروبيين من أعضاء حملة الحماية الشعبية الدولية للشعب الفلسطيني في خيمة بيضاء صغيرة أقيمت فوق أنقاض منازل مهدمة. ويعتقد بعض السكان أن هؤلاء الناشطين الأجانب يستطيعون حمايتهم من الجرافات الإسرائيلية، في حين يعتقد آخرون أن ليس بإمكانهم فعل شيء، بل أحيانا تنتقم قوات الاحتلال من أصحاب المنازل التي أقام فيها هؤلاء الناشطون بهدمها، كي تردع الآخرين عن استقبالهم. وتحولت حياة مئات العائلات التي تسكن على امتداد الشريط إلى جحيم ، ففي المدينة التي قدمت أكثر من 220 من الشهداء وآلافا من الجرحى، ومئات المنازل المهدمة كليا، ومثلها من المهدمة جزئيا، يبدأ إطلاق النار والقذائف عند الثامنة أو التاسعة مساء بالتوقيت المحلي ويستمر حتى الفجر وأحيانا حتى الصباح. وفي الصباح وعلى امتداد ساعات النهار يستمر الجنود في الضغط على الزناد. وعلى رغم التكافل الاجتماعي بين الناس في المدينة الأكثر فقرا بين مدن الضفة والقطاع، فان هذا الوضع المأسوي انعكس سلبا على العلاقات الأسرية والاجتماعية. وتقول أم عطا أن لا أحد يزورهم في منزلهم بسبب سوء الأوضاع الأمنية وإطلاق النار والقذائف، لدرجة أن زوج ابنتها الذي يقيم في مدينة خان يونس تبعد نحو 10 كيلومترات عن رفح منعها من زيارة ذويها بسبب خشيته على حياتها وحياة أطفالهما. وأضافت انه بعد إلحاح شديد من العائلة سمح لابنتها أن تزورهم وحيدة من دون أبنائها وعلى فترات متباعدة. أما حال ابنها عطا فلا تسر، وبعدما هدمت قوات الاحتلال معظم أجزاء منزله، قرر الإقامة في منزل صغير مستأجر في بلدة بيت لاهيا شمال القطاع، إلا أن صواريخ الاحتلال لاحقته هناك وقصفت خلال عملية اجتياح شمال القطاع في الثاني عشر من آذار مارس الماضي ورشا صناعية مجاورة للمنزل الذي استأجره فأصيب بجروح وكسور خطرة أرغمته على السير مستخدما عكازين، على رغم انه أجرى ثلاث عمليات جراحية. واضطر عطا إلى العودة للإقامة مع أشقائه وعائلته في المنزل الذي يقف منتظرا قدوم الجرافات الإسرائيلية كي تشتت ما تبقى لهم من ملاذ وللصغار المنسيين في ظل هذه الأوضاع، أحلام العصافير.