في مشاهد كأنها تعيد التاريخ الى الوراء 53 عاماً، انتشرت عشرات الخيام الخضر والبيض بين أنقاض منازل مهدمة، تشرح اطلالها نكبة جديدة حلت بشعب، اعتقد العالم في السنوات الأخيرة من القرن العشرن بأن قضيته حُلت، أو هي على الأقل في طريقها الى الحل، ليكتشف مع اطلالة القرن الجديد أن القسم الأعظم منه ما زال شريداً مهجّراً. لقد تعرض اللاجئون الفلسطينيون الى التهجير مرة ثانية، وبعضهم مرة ثالثة. فاللاجئون الذين هدمت قوات الاحتلال الاسرائيلي منازلهم وبيوتهم البسيطة، ما زالوا مصرين على العيش في الخيام، التي منحتهم اياها وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين في الشرق الأدنى. ومع اشتداد الحرارة في قطاع غزة في الأسابيع الأخيرة، وموجات الخماسين التي اجتاحت المنطقة، فإن صيفاً قائظاً مريراً سيمر على اللاجئين هذا العام. ويعاني اللاجئون، ألواناً أخرى من العذاب، فالخيام لا تتسع لاستيعاب العائلات، خصوصاً العائلات الكبيرة. ولا يمكن أن تتوافر عوامل النظافة والصحة، كون الخيام تقوم في الشارع، وفوق الرمال، اضافة الى معاناة الأطفال الذين لا يتمكنون من الدراسة وتلبية الحاجات المدرسية. وتظل "أم المشكلات" بالنسبة الى هؤلاء النظافة والفقر. كثيرون يعملون داخل الخط الأخضر في الورش الاسرائيلية ومنذ اندلاع الانتفاضة أواخر ايلول سبتمبر الماضي لم يتمكن معظمهم من الوصول الى أماكن عملهم بسبب الحصار الذي فرضته سلطات الاحتلال على القطاع آنذاك، ومنعت بموجبه العمال من التوجه الى أماكن عملهم، في خطوة تهدف الى زيادة الضغط الداخلي، وقمع الانتفاضة تمهيداً لوضع حد لها وانهائها. وكانت قوات الاحتلال شنت هجمات عدة في ذروة سياسة القمع والقتل على مخيمات رفح، وخصوصاً بوابة صلاح الدين الغربية، أسفرت عن هدم عشرات المنازل، وتشريد وقتل واصابة عدد من المقاومين ورجال الأمن الوطني الفلسطيني. ويتساءل الفلسطينيون البسطاء، وأحياناً المثقفون ورجال السياسة على حد سواء حول التفسير المنطقي لتهجير اللاجئين منذ عام 1948، إبان نكبة فلسطين، وقيام الدولة العبرية على أنقاض مدنهم وقراهم ومنازلهم، ومعنى أن تكرر الأمر مرة أخرى عام 1967، عندما قامت قوات الاحتلال بإحضار عائلات وشاحنات، وافتتحت مكاتب خاصة لتهجير الفلسطينيين من ديارهم التي نزحوا اليها أصلاً عام 1948. ويشير هؤلاء الى أن السبب الرئيس وراء كل ما حلّ بالشعب الفلسطيني عبر سنوات طويلة، لم يكن سوى الاستيطان اليهودي في فلسطين، الذي بدأ في نهايات القرن التاسع عشر، وازدادت موجاته في بدايات القرن العشرين، واستفحل في الربع الثاني من القرن نفسه، وفي الفترة التي تُوجت نهايتها بقيام الدولة العبرية. ويضيف هؤلاء ان الاستيطان لاحقهم حتى في الضفة والقطاع والقدس في أعقاب احتلالها العام 1967، حيث وصل عدد المستوطنين الآن نحو 200 ألف مستوطن يهودي، انتقلوا للعيش في هذه المستوطنات تحت حجج وذرائع ايديولوجية ودينية، مفادها ان هذه الأرض لليهود دون سواهم، وان الله منح "شعبه المختار" فلسطين منذ ما قبل التاريخ، الأمر الذي يقابله الفلسطينيون بحقائق مناقضة، ويقولون انهم أحفاد الكنعانيين الذين عاشوا فيها قبل اليهود. وعلى رغم ذلك، فإن المجتمع الدولي وهيئة الأممالمتحدة اعتبرت ان احتلال الضفة والقطاع بما فيها القدسالشرقية عام 1967، غير شرعي، وأصدر مجلس الأمن الدولي لهذا الغرض القرار الرقم 242، الذي يدعو الى انسحاب القوات الاسرائيلية المحتلة منها فوراً، امتثالاً لمبدأ انه لا يجوز احتلال أراضي الغير بالقوة. وفي أعقاب احتلال الضفة والقطاع واصلت الدولة العبرية انشاء واقامة المستوطنات اليهودية فوق أراضيها، واستجلاب اليهود من كل بقاع الأرض وتوطينهم فيها أو في فلسطين التاريخية، غير عابئة أو آبهة برفض المجتمع الدولي والموثيق والأعراف الدولية لذلك، بل عملت على قمع أي مقاومة فلسطينية اعتبرتها الأخيرة شرعية، في حين اعتبرت ان الاستيطان عمل غير شرعي، خصوصاً اتفاقية جنيف الرابعة، التي تشكل جوهر القانون الدولي الانساني، وتحدد العلاقة بين دولة الاحتلال والشعب والاقليم الأرض المحتلة. ويؤكد الفلسطينيون اليوم ما ذهب اليه سابقوهم، بالقول انه ما كاد للدولة العبرية أن تقوم من دون طردهم من ديارهم وتوطين المستوطنين محلهم في فلسطينالمحتلة عام 1948، الأمر نفسه الذي يحدث اليوم في الضفة والقطاع. ويشيرون الى أن المستوطنات في الضفة والقطاع والقدسالمحتلة، جاءت لاحلال اليهود محل الفلسطينيين فيما تبقى لهم من أراضي فلسطين البالغة مساحتها نحو 22 في المئة من أراضي فلسطين التاريخية. ويضيفون ان الأمر لم يقف عند هذا الحد، فالهجمات التي يتعرض لها الفلسطينيون خلال أشهر الانتفاضة الثمانية الماضية كلها تقريباً تأتي بسبب وجود المستوطنين اليهود، وتوفير الحماية لهم من قبل آلاف الجنود والدبابات والآليات العسكرية الاسرائيلية. وازدادت شراسة العدوان الاسرائيلي في أعقاب الهجمات المسلحة للفلسطينيين على المدنيين وقوافل الجيش الاسرائيلي، واطلاق قذائف الهاون على المستوطنات في قطاع غزة، الأمر الذي أرادت حكومة تل أبيب أن تضع حداً له، من خلال شن هجمات عنيفة جداً، شملت هدم المنازل وتخريب الأراضي واقتلاع الأشجار، بهدف خلق مناطق عازلة خالية من السكان حول المستوطنات والمواقع العسكرية الاسرائيلية، اضافة الى القصف الجوي والبحري والبري. وفي هذا السياق، شنت قوات الاحتلال هجمات كبيرة، وتوغلت في أكثر من مكان من قطاع غزة، وخلفت آثاراً وتدميراً كبيراً، قبل أن تنسحب منها وتعود الى مواقعها. وكان الهجوم الأول الأكبر على مخيم خانيونس في الحادي عشر من شهر نيسان ابريل الماضي، بدأ عند منتصف الليل، واستمر زهاء أربع ساعات، نفذت خلالها قوات الاحتلال خطتها التي وضعتها مسبقاً وأسمتها عملية "المسح" أو "الحلاقة"، على رغم المقاومة المسلحة التي واجهتها. وأسفر الهجوم بالدبابات والطائرات المروحية والجرافات، عن استشهاد فلسطينيين، وهدم 31 منزلاً وتشريد نحو 500 فرداً من المنطقة المحاذية تماماً لمستوطنة "نفيه دكاليم" اليهودية الواقعة غرب المخيم. واذا كان الهجوم وقع في مخيم خانيونس مرة واحدة، فإن مخيمات رفح كان نصيبها أكبر من الهجمات، ففي مدينة رفح ومخيماتها أكثر من موقع مستهدف من قبل قوات الاحتلال. وأول هذه المواقع كان تجمع المواطنين قرب بوابة صلاح الدين الواقعة على الشريط الحدودي الفاصل بين فلسطين ومصر. وأسفر الهجوم الذي شنته قوات الاحتلال على المنطقة المحاذية للبوابة عن هدم 16 منزلاً و12 محلاً تجارياً، واصابة العشرات، وذلك في الرابع عشر من نيسان ابريل. ثم انتقلت قوات الاحتلال الى الهجوم الأكبر، على مخيم البرازيل للاجئين في الثاني من أيار مايو الماضي، حيث اقتحمت المخيم فجر ذلك اليوم، وهدمت 18 منزلاً تحت وابل من القصف المدفعي والرشاشات الثقيلة، ما أدى الى تشريد نحو 200 فرد، معظمهم من الأطفال. ودانت جهات دولية كثيرة هذه الهجمات، ومن بينها الولاياتالمتحدة. وقال المتحدث باسم وزارة الخارجية الأميركية فيليب ريكر معلناً عن الهجوم على مخيم البرازيل، "ان عمليات التسلل التوغل الاسرائيلية في المناطق الخاضعة للسيطرة، مثل التسلل الى رفح... وتدمير مبانٍ بالجرافات، يقوض الجهود المبذولة لتهدئة الوضع ووضع حد للعنف والتصعيد". أما منسق نشاطات الأممالمتحدة في الأراضي الفلسطينية، مبعوث الأمين العام لعملية السلام تيري رود لارسن فاعتبر ان الهجوم على مخيم خانيونس "أمر معيب"، وذلك في أعقاب جولة قام بها الى خيام اللاجئين هناك. وعلى رغم هذه التصريحات وتنديد المجتمع الدولي بالعدوان الاسرائيلي ضد الفلسطينيين فإن قوات الاحتلال واصلت تنفيذ اجراءاتها ضمن خطة "المئة يوم" التي وضعتها الهيئات العسكرية والأمنية ووافق عليها رئيس الحكومة الاسرائيلية آرييل شارون، وعادت للهجوم على مخيم "فيينا" في رفح أكثر من مرة، وهدمت عدداً من المنازل أيضاً. ومنذ أن هُدمت منازلهم، يعيش اللاجئون في خيام فوق أنقاض منازلهم في كل من خانيونس ورفح، بل انهم كانوا مصرين على بناء منازلهم من جديد، قبل أن يقتنعوا بأنه لا جدوى من ذلك، خشية أن تقوم جرافات الاحتلال بتدميرها من جديد. وانتقل بعض هؤلاء، خصوصاً في خانيونس للسكن في شقق جديدة استأجرتها لهم السلطة الوطنية في مبان سكنية قريبة من الحي النمساوي، الذي يتعرض بشكل شبه دائم الى قصف اسرائيل. وما زال هؤلاء اللاجئون مشتتين بين الاقامة ليلاً في الشقق الجديدة، والاقامة نهاراً في خيامهم، التي استلموها من "اونروا" نهاراً. وكان الرئيس عرفات أصدر قرارين في أوقات سابقة تقضي بمنح العائلات المهدمة منازلها مساكن جديدة أو استئجار شقق لهم. وتم بموجب هذا القرار منح اصحاب المنازل المهدمة في خانيونس 40 شقة بتعليمات من المحافظة، إلا أنه تبين للاجئين انه يوجد فقط 23 شقة، الأمر الذي أثار غضبهم، قبل أن يتم تسوية الأمر أخيراً، ويتم منحهم الشقق الباقية، التي تتعرض بدورها لاطلاق النار من قبل قوات الاحتلال. ويعلق اللاجئون في خانيونس ورفح آمالاً كبيرة على السلطة الوطنية و"انروا" لحل مشكلتهم وتوفير السكن الملائم لهم والتعويض عليهم ولو بالشيء القليل، بدل ممتلكاتهم التي دمرت تحت المنازل المهدمة. وطالبوا الأمم التحدة توفير الحماية الدولية لهم، ووضع حد للعدوان الاسرائيلي عليهم. وقال لارسن موجهاً حديثه لأصحاب المنازل المهدمة ان "ما يدعو الى الحزن، انكم اصبحتم بلا مأوى، واصفاً ظروفهم بأنها "قاسية ومؤلمة". ولطمأنة اللاجئين قال لارسن: "ان المساعدة لأصحاب المنازل المهدومة ستكون بمثابة قضية شخصية بالنسبة إليّ، مبدياً تعاطفه مع السكان. وبدت الصدمة واضحة على وجه لارسن، وعدد من المسؤولين الدوليين، بينهم وزراء خارجية زاروا الأماكن المدمرة، كيف لا وأوضاع هؤلاء المعيشية باتت مأسوية جداً. وقال الحاج أحمد أبو رضوان 75 عاماً ل"الحياة" "اننا نعيش مأساة كبيرة جديدة". وأضاف أبو رضوان: "إن أصحاب المنازل المهدمة يعانون أوضاعاً معيشية قاسية للغاية"، مشيراً الى "إننا نأكل الوجبات الخفيفة، ونشرب المياه من خزانات وضعت الى جوار الخيام التي نعيش فيها، ولا نعرف أين نقضي حاجتنا". وأشار أصحاب المنازل المهدمة في خانيونس ورفح في أحاديث منفصلة مع "الحياة" الى أنهم باتوا لا يمتلكون شيئاً، وأنهم خرجوا من منازلهم بسرعة ساعة الهجوم، قبل أن تدوسهم الجرافات وتهدم منازلهم فوق رؤوسهم. وأوضحوا ان أثاث منازلهم وأواني الطبخ والملابس وكل شيء بقي تحت الأنقاض، إذ يصعب عليهم استخدامها لاحقاً بسبب تلفها وتحطيمها. وحثت بعض المؤسسات والهيئات المحلية والدولية، ومن ضمنها اللجنة الدولية للصليب الأحمر على مساعدة اصحاب المنازل المهدمة، وتقديم معونات غذائية وعينية لهم، كي يتمكنوا من تخطي محنتهم. وما زالت أوضاع العائلات في رفح على حالها بعد شهر من الهجوم. فهم يقيمون في الخيام التي استلموها من اللجنة الدولية للصليب الأحمر، ويقتاتون من المعونات التي تقدم اليهم من هيئات وأفراد محليين. ورفض أصحاب المنازل المهدمة عرضاً تقدمت به السلطة الوطنية لإسكانهم في ابراج قرب الحي النمساوي بسبب تعرضه الدائم للقصف واطلاق النار من قبل قوات الاحتلال. ويدرس اللاجئون الآن عرضاً جدياً ببناء مساكن وبيوت لهم فوق قطع أرض خصصتها السلطة لهذا الأمر غرب مدينة رفح. ويقضي العرض بتسليم كل عائلة قطعة تبلغ مساحتها نحو 200 متر مربع، فيما ستقوم "أونروا" ببناء المنازل لكل منهم، بموجب مبلغ من المال أقرته لهم. وعلى رغم ترحيلهم، إلا أن أصحاب المنازل كانوا يتوقعون أن يقدم لهم أكثر من ذلك، خصوصاً أن بعضهم كان يمتلك منزلاً كبيراً، وعدد أفراد أسرهم كبير نسبياً. وأشاروا الى أن سعيهم ينصب الآن على عودتهم وأسرهم وأطفالهم الى نمط حياتهم الذي كان سائداً قبل هدم منازلهم، والعيش بأمان وكرامة، من دون أن يمدوا أيديهم لأحد. وعلى رغم هذا الحلم البسيط، فإن حلم أصحاب المنازل المهدمة واللاجئين جميعاً تظل العودة الى مدنهم وقراهم وديارهم التي شردوا منها عام 1948، بموجب قرار الأممالمتحدة رقم 194، وهو الأمر الذي ما انفكوا يطالبون بتحقيقه منذ أكثر من 53 عاماً، خصوصاً وهم يتذكرون من داخل خيمهم الجديدة، خياماً عاشوا فيها سنوات عدة في أعقاب النكبة!