البحث عن الآخر في كتابة فرناندو بسِّوا سعي لا ينتهي. الآخر يحمل الأجزاء المبعثرة من أناه التي يحاول أن يخفيها تارةً ثمُّ يظهرها تارة أخرى. على لسان فرناندو سواريس يقول فرناندو بسِّوا: في كل واحد منا كم هائل من أنفسنا المشتتة. تكمن جذور الرغبة في خلق صيرورة التشظي الذاتي إلى أكثر من أنا في انتحار صديق فرناندو بسِّوا الأقرب، ماريودي ساكارنيرو، الشاعر الذي ألهمه تجربة تقمص الهويات المتعددة الوجوه. وربما شكّل موت الشاعر انتحاره بالأحرى قرباناً لبسِّوا أبعده من الجنون أو الإنتحار بدوره. ومع هذا فقد ظل بسِّوا يعاني أزمة في ذاته. أزمة هوية وتواصل مع الآخرين. يبدو الأمر وكأن صديقه الراحل أخذ معه الرغبات الدافئة والمشاعر الدفينة كلها. لقد بقي فرناندو بسِّوا عازباً طوال حياته وهو عمد إلى تأليف عائلة خاصة به. عائلة كان هو فردها الوحيد، ولكن المتعدد. عائلة مكتفية بذاتها ومنكفئة على ذاتها: تمارس العشق والكره، التجاذب والتنافر، في ما بينها. إن اسم كاييرو ألبيرو كاييرو، الذي أنشأه بسِّوا هو في الغالب تكثيف من اسم صديقه كارنيرو. كان الإثنان، فرناندو وكارنيرو، أسسا مجموعة تسمى أورفيوس، عام1915 ، وأصدرا مجلة بالإسم نفسه. وهما حاولا تجديد اللغة والأفكار والنظرة إلى العالم والجمال. في خاطرة قصيرة يتوقف بسِّوا عند شخصيته الداخلية التي يهاجمها الاضطراب على الدوام. وهو يصف نفسه في هيئة شخص ذي مزاج أنثوي وذكاء رجولي. "إنني أرغب دائماً في أن أكون معشوقاً لا عاشقاً". لا يخفى عليه أن الأمر يتعلق بانقلاب نفسي وجسدي، بات يستولي على الذهن والذاكرة. وهو يستذكر شكسبير وجان روسو اللذين اتخذ الانقلاب، عندهما، شكل انخطاف جنسي مثلي وسلوك مازوشي مكبوت. يصنف فرناندو بسِّوا شخصياته في مراتب من حيث النزعة والسلوك: كاييرو - اللاشخصنة التجريدية الدرامية ريكاردو رييس الانضباط العقلي وحب الموسيقى ألفارو دي كامبوس العاطفة في حديثه عن نفسه يكشف بسِّوا عن ميله، منذ الطفولة، إلى تشييد عالم خيالي وخلق أصدقاء ومعارف لا وجود لهم. هو يقول ما يأتي: "لا أعرف إن كانوا فعلاً غير موجودين أم أنني أنا لم أكن موجوداً. في أشياء كهذه، مثلما في أي شيء آخر، يجب ألا نكون دوغمائيين". يخطر لنا، على الفور، الكون الفانتازي الذي أقامه خورخي لويس بورخيس. ومع هذا يبدو أن الجسر الذي كان الخيال يمدّه بينهما لم ينهض. حين سئل بورخيس عام 1968 عمّا إذا كان قرأ كافكا قال: لا. ولما سئل عما إذا كان قرأ بسِّواو سال: من هو؟ مع هؤلاء لا يفارقنا الشعور بأن الثلاثة انتهوا، توّاً، من جلسة في غرفة مظلمة في قصر قديم مملوء بالأشباح. كان بسِّوا، مثل كافكا، في نزاع دائم مع جسده. كان الخارج الماكث حوله عدواً هائلاً وكان جسمه أشبه بكائن مختنق في شرنقة مرعبة. يتحدث بسِّوا عن خوفه من الشروع في أي شيء وعجزه عن إتمام كل صنيع. وربما تأتى ذلك من توقه الى غير المعقول وسعيه إلى المطلق. هنا ينهض انجذابه إلى الغموض وتهربه من الحبكة المنتهية. ربما كان ذلك وراء انصرافه عن القصة والرواية وتمسكه بالشعر والسرد المفتوح الذي لا يلوح له وجه. كتب بسِّوا قصة وحيدة بعنوان "المصرفي والفوضوي"، نشرت عام 1922 في مجلة Contemporanea المعاصر. كان الشعر بالنسبة اليه تحرراً من النسبي والآني وتحليقاً نحو اللانهائي. الشعر، في رؤية بسِّوا، يقوم في الأبد وفي كل شيء. إنه بمثابة ثروة من المعاني التي لا حدود لها وتكتنف الأحوال جميعاً. الشعر، بكلمات بسِّوا، مثل السقوط من السماء والإحساس بهذا السقوط. كل شيء يختزن شعراً حتى ذلك "المسمار الذي في الجدار أو الورقة التي على المنضدة، أو المحبرة أو هدير السيارات في الشارع". رؤية كهذه تحول العيش إلى خيال وتجعل الإقامة في الزمن حلماً. يزول الفاصل بين المحسوس والمجرد، كذلك تتداخل الوقائع والخيالات بحيث تصير كلاً واحداً. وفي هذا المفترق نفهم العلاقة التي تربط بسِّوا بالأجزاء الأخرى من أناه. إنها ليست أجساداً بل إمكانات. وهي تقتحم حدود الواقعي لتحتل منه الفراغات وتملأها بالفكرة. لكل شيء كيانه ولكل فكرة استقلالها الخالص. يقول بسِّوا انه لا يستطيع التأكد مما إذا كان الحقيقي هو شكسبير أم هاملت. بالقدر نفسه هو لا يستطيع تبيان الأجدر بالعيش: فرناندو بسِّوا أم ألبيرتو كاييرو، مثلاً. تتم الأشياء بمعزل عنه كما لو كان هناك قانون يقف خارج الكل. خلق فرناندو بسِّوا أصدقاء ومعارف لم يكن لهم وجود من قبله. ولكنهم تحوّلوا، من ثم، إلى كائنات ذات حضور لا يقل عن حضوره هو. "رحت أسمع داخلي نقاشات ووجهات نظر متعارضة وبدا لي، أنني، أنا صانع هذه الأشياء، الأقل حضوراً. كل شيء يجري باستقلال عني". من يصنع من، فرناندو بسِّوا أم ريكاردو رييس أم ألفارو دي كامبوس؟ من الذي يكتب ويكتشف المدهش المدفون في زوايا العالم؟ يبقى السؤال مشدوداً إلى ذريعته الداخلية. أما بسِّوا نفسه فيؤكد أنه لن يفاجأ إذا ما صادف يوماً ريكاردو رييس يسير في أحد الشوارع في مدينة أميركية. هذا هو صوت بورخيس. أن تدرك الشيء من دون أن تبحث عنه. أن تحس من دون أن تسأل. ألبيرو كاييرو يكتب الأشعار وينشرها في ديوان فيكتب مقدمتها ريكاردو رييس. وألبيرتو كاييرو يكتب فيترجم كتاباته ريكاردو رييس. أما ألفارو دي كامبوس فيدوّن ملاحظاته على مذكرات السيد كاييرو، ثم يقوم حوار بين الإثنين حول الشعر والنثر والعواطف والغناء. من هذا التواصل الدائري نحصد موسماً وفيراً من الكلمات والأفكار. ندرك، مثلاً، أن الكون لا يتوافق مع نفسه لأنه دائم العبور وأن الحياة لا تتوافق مع نفسها لأنها تذوي أبداً وأن الفكرة المحبوكة جيداً تنطوي على إيقاع داخلي وأن الإخلاص هو أعظم جريمة في الفن. جريمة الإخلاص؟ تلك هي فكرة بسِّوا. هل أخذها من ريكاردو رييس أم من ألفارو دي كامبوس؟ هو كان قال انّ في داخله نزوعاً إلى الكذب الفني. كان حاول طوال حياته أن يكون أكثر من واحد في الوقت نفسه. كان يولد باستمرار ويعيد صوغ نفسه من دون توقف. في القصيدة الشهيرة Tabacaria دكان بيع التبغ يقول: أنا لا شيء سأكون دائماً لا شيء لا أرغب في أن أكون شيئاً ما عدا ذلك، فإنني أختزن في داخلي كل الأحلام كان بسِّوا بدأ الكتابة باللغة الإنكليزية تحت اسم تشارلز روبرت آنون. وبقيت عنده هذه "العادة": أن يكتب بالانكليزية وأن يكتب بأسماء أخرى. تألف الفضاء الأمثل لديه من القراءة والكتابة. التأمل، الحلم، الرسم، الموسيقى، الأفكار.تلك هي ألوان ذلك الفضاء. "القراءة نوع من الحلم". ولكن هذه الأشياء لم تكن سوى ذرّات من الغبار تتطاير في الهواء من دون أن تؤلف مستقبلاً أو معبراً إلى طوبى. أكثر ما يزعج بسِّوا هو مجرد التوقف عند فكرة الخلاص. الأشياء تبقى ناقصة والناس لن يظفروا بالسعادة قط والمجتمع لن يتوصل إلى توازن مثالي ينهي آفاته. قال بيِّسوا هذه الأشياء في وقت كانت الدعوة بالحرية والانعتاق، المادي والروحي، تملأ الأرجاء كلها. كانت الفلسفات والإيديولوجيات التبشيرية تغزو كل ركن. وفي عالم طغى التفاؤل السطحي والميل إلى الوقوف عند سطح الأشياء ركن بسِّوا إلى الغامض والمعتم وتآلف مع الأحاسيس الداخلية لذاتٍ تستقر في قاع القلق. هكذا كمن الأمان في الهروب من الواقع إلى الكتاب. فهم القراءة كان معادلاً لفهم العيش. واللحظة الراهنة كانت مجرد لحظة عبور إلى الحلم. أما الأفكار فهي محطات تنتقل من كائن إلى آخر. وهي، شأنها شأن الأفراد أنفسهم، تتأرجح بين الخير والشر وتحول الكون إلى مجموعة من القوانين والعقائد والشعائر. لكي ينجو المرء من هذه الشبكة لا يبقى له سوى الاستنجاد بالمخيلة والأحاسيس. الأفكار تنتقل، أما الأحاسيس فتبقى ملكاً حصرياً للذات. وهي وحدها، أي الأحاسيس، خالقة للفن. إنها روح الفن الذي تكمن عبقريته في تسريب الإحساس عبر التمثيل. في رأي بسِّوا، أن النظرة الأرسطية تتطلب تعميم ما هو خصوصي، أي ما هو فريد وشخصي بالضرورة، فيما المطلوب هو تخصيص ما هو عمومي وتشخيص ما هو عام. أي تحويل الخارجي إلى داخلي. فمن خلال عقولنا نحن آخرون فيما نحن نمثل أنفسنا من خلال أحاسيسنا الشخصية. الأحاسيس تغلي وتضطرب وتضل وتشتط فيما العقل يضبط وينصح. وجوه فرناندو بسِّوا الكثيرة هي محطات للإعجاب، لا القداسة. أما الشخصيات التي تقاسمت معه الكتابة والتقت حوله فقد حافظت على نقاء المخيلة وأنقذتها من الجمود. في كتاب أنطونيو تابوكي الجميل "الأيام الثلاثة الأخيرة لفرناندو بسِّوا"، نلقى فرناندو بيسوا على فراش الموت. يدخل عليه، تباعاً، أصدقاؤه الأبديون: برناردو سواريس، ريكاردو رييس، أنطونيو مورا، ألبرتو كاييرو، ألفارو دي كامبوس. هم يودعونه ويشيعون رحيله بأحاسيس ملونة بالكلام. من الذي رحل حقاً ومن الذي تخلف؟