قد لا تغيّر قراءة نص أو كتاب حياة القارىء، كما يزعم بحماسة بعض كتّاب السيرة والنقاد، لكن مثل هذه القراءة قد تجعل حياة القارىء بالتأكيد مختلفة عما كانت عليه، وعما ستكونه فيما بعد. وليس من قبيل حمل القول على مجازه الخفيف ان نفترض ان حياة انطونيو تابوكي، الايطالي المولد واللغة والأوروبي الهوى، قد وُسمت بقراءة من هذا النوع واصبحت على أثرها، سباقاً من السعي المتمادي، والبحث والتقصّي، وراء كاتبٍ متعدد الاسماء والسير. ترجع حكاية هذه الصلة الخاصة الى خريف العام 1964، عندما يعثر انطونيو تابوكي، وكان آنذاك لا يزال طالباً في باريس على كتيب بالفرنسية يتضمن ترجمة لقصيدة "دكان تبغ" لألفارو دوكامبوس عن البرتغالية" ويتضح ان القصيدة لشاعر برتغالي مجهول يدعى فرناندو بسوّا. منذ ذلك الحين اصبحت حياة انطونيو تابوكي رحلة من البحث الشاق لاقتفاء أثر هذا الشاعر الذي لم ينشر في حياته سوى القليل القليل مما كتبه، والذي أمضى حياته موظفاً في شركة للشحن البحري في لشبونة اثر طفولة وصباً قضاهما في أفريقيا الجنوبية حيث درس الانكليزية. قصيدة غيّرت حياة قارىء" وكانت بداية شغف تواصل ثلاثة عقود ولم ينته فصولاً بعد. فبالاضافة الى عدد كبير من الدراسات النقدية والترجمات التي عرّفت ببسوّا وقدّمته للقارىء الايطالي، كتب تابوكي عدداً من الروايات كان طيف فرناندو بسوّا مخيماً على أجوائها. وكان في اصراره هذا اقتراباً من شخصية الشاعر الغامض باسمائه وشخصياته المتعددة واستعادة لسيرته من بدايات مختلفة، حتى قيل ان "تابوكي هو الاسم السابع والشخصية السابعة لفرناندو بسوّا، بعد اقرانه الآخرين: ألفارو دوكامبوس وألبرتو كايرو وريكاردو رايس وبرناردو سواريس المؤلف المزعوم ل"كتاب اللادعة" وانطونيو مورا. كان تابوكي قد أصدر كتاباً عام 1993 بعنوان "هذيان" أيام فرناندو بسوّا الثلاثة الاخيرة" صدرت ترجمته العربية بتوقيع اسكندر حبش عن دار المركز العربي عام 1997" وفي خريف العام 1998 المنصرم صدر له كتاب آخر بعنوان "الحنين" السيارة" واللامتناهي" وقراءات في أعمال بسوّا. وفصول هذا الكتاب هي في الاصل اربع محاضرات ألقاها تابوكي، كاستاذ زائر، في معهد الدراسات العليا للعلوم الاجتماعية في باريس عام 1994، وفيها قراءات مقارنة لأبرز الموضوعات التي وسمت نتاج بسوّا وصِلتها بموضوعات بارزة في اعمال كبار كتاب الادب الاوروبي من سابقيه ومعاصريه. غير ان اللافت في هذه المحاضرات الاربع تمحورها حول سؤال الكتابة نفسها. ولعلّ التطرّق الى هذا السؤال يأتي في الدرجة الأولى تلبية لرغبة تابوكي في ادراك أو محاولة إدراك حقيقة اللغز الذي صرف القسط الأوفر من حياته الادبية سعياً وراء حلّه. فما هي علاقة الكاتب بالكتابة، ثم ما صلة الكتابة بالقارىء؟ وكيف يمكن للسيرة الذاتية ان تكون مادة للكتابة؟ وما هي أوجه "أنا" الكاتب التي تكتب؟ ينطلق تابوكي في محاولة الاجابة من مقطعين في قصيدة لفرناندو بسوّا. وإذ تعذّر علينا نقل هذين المقطعين عن الفرنسية بترجمة لائقة نقترح صيغة تقريبية بالعربية لهما. يقول بسوّا اذاً: إن أرقى ما قد يزعمه الشاعر هو الزعم / وأرقى مزاعم الشاعر زعمه، في آخر المطاف، ان الألم الذي يستشعره هو الألم حقاً / وأولاء الذين يقرأون ما كتبه الشاعر /يشعرون، وراء الألم المقروء، ليس بالألمين اللذين استشعرهما الشاعر بل بالألم الوحيد الذي لا يعرفونه. ولتابوكي ان يتبع، استقراءً، مقدّمات بسوّا واستنتاجه. فالشاعر الكاتب ينتابه إحساس ما. وحين يصمّم على "تعبيره" بوساطة الأب الذي هو ضرب من الاختلاف، سيتوجب، عليه، على نحو ما، ان يتظاهر مقلّداً إحساسه الحقّ. وأذ ذاك يصل الاحساس الى المتلقي في الدرجة الثالثة: فيتلقى القارىء الرسالة ويدرك الاحساس المعنيّ غير انه لا يستطيع، بناءً على ما تقدّم، ان يستشعر الإحساس نفسه سواء كان حقيقياً أم مزعوماً الذي يستشعره من ينقله اليه. لذلك، ومن خلال الاحساس الذي يتلقاه بالاختلاق، يزعم لنفسه إحساساً آخر. الى هذا الحد تبدو "العبارة" بالانشاء شبه مستحيلة، اذا كان الكاتب واحداً. غير ان بسوّا يضيف الى شبه الاستحالة هذه مقداراً أكبر من التعقيد حين يتشارك، هو واسماؤه الموازية، في الكتابة. فالحال ان شخصيات بسوّا، وهي التي تتبنّى فصل الكتابة وتذيّله بتوقيعها، ليست شخصيات على سوية عادية ولها ان تحيا سيرها. بل هي مجبرة على "زعم" هذه السير. انها مخلوقات مبدعة شعراء: أي انها كائنات مختلقة، تختلق بدورها الأدب. كان أوكتافيو باث يقول: إن الشعراء لا سيرة ذاتية لهم" ان اعمالهم هي سيرتهم. وبهذا المعنى يمكن القول ان سيرة فرناندو بسوّا، التي هي أعماله، متنافرة الى حدود العبث. فعندما يكتب البرتو كايرو أو الفارو دو كامبوس قصائدهما إنما "يعبران" عن أوجه من الفكر ومن الحياة قد تكون بعيدة كل البعد عما يفكره بسوّا أو يعيشه. ما يجعل سيرة بسوّا، اذا كانت، حقاً، على صورة أعماله، اجزاءً غير متناسقة من سير اخرى، مختلقة، لكنها بدورها تختلق سيرته وأعماله. واذا تتبع القارىء، قارىء بسوّا، القراءة التي يقترحها تابوكي، لتوجّب عليه ان يعمل قيّافاً وينكبّ على العلامات الفارقة في سير الاسماء الموازية لبسوّا. ألفارو دوكامبوس مواليد عام 1890 مهندس بحري لم يزاول مهنته" وهو ذو نزعة عدمية مستقبلية ولا يخفي ميله الى مديح الانحطاط. كتب احدى أجمل القصائد التي كتبت في هذا القرن: "دكان تبغ" نشرت ترجمتها العربية منذ بضع سنوات بتوقيع الشاعر عباس بيضون. ألبرتو كايرو، استاذ فرناندو بسوّا واسمائه الموازية كافة، ولد في لشبونة عام 1889 وتوفي عام 1915 في احدى المناطق الريفية، رجل يميل الى العزلة والتأمل وكتب قصائد ذات نبرة رثائية وغلبة الطابع البصري. ريكاردو رايس ربيب المدارس اليسوعية ولد عام 1887 ودرس الطب لكنه لم يزاول مهنته. شاعر حسّي ومادي متأثر بالكلاسيكية التجريدية. برناردو سواريس لا يعرف تاريخ ولادته أو موته. عاش حياة متواضعة، عمل محاسباً لدى شركة استيراد وتصدير في لشبونة. ولطالما حلم برؤية سمرقند. وهو مؤلف يوميات ذات طابع غنائي وميتافيزيقي وسمه ب"كتاب اللادعة"! تعرَّف اليه بسوّا في مطعم اسمه "بسوّا" وخلال تناولهما الطعام معاً روى له برناردو سواريس تفاصيل مشروعه الادبي واحلامه. انطونيو مورا، داعية الوثنية ومؤلف كتاب "عودة الآلهة". قبل وفاته أوصى بسوّا بأن يحفظ أوراقه المخطوطة وكان مناسبة لهذا الاخير بان يطلع عليها. انطونيو تابوكي: مؤلف اكثر من دراسة وبحث ورواية حول سير فرناندو بسوّا المتخيّلة. لم يلتقه، في الحقيقة، سوى مرّة واحدة، في الفصل الاخير من روايته "صلاة جنائزية" منشورات كريستيان بورغوا 1993 في أحد مطاعم لشبونة الرديئة. وفي كتابه الاخير "قراءات في أعمال بسوّا، يطرح سؤال الكتابة بحثاً عن إجابة فيفضي به سؤاله هذا الى مغامرة يسعى خلالها ان يرسم الحد بين الحلم والواقع، بين السيرة الحقّة والسيرة المختلقة ليتوصل في نهاية هذه الحقبة من مغامرته الى السؤال: هل يكون العالم مجرّد كتاب؟ - حلمُ بسوّا شاعراً ومُنتحلاً ليلة السابع من آذار مارس عام 1914، حلم فرناندو بسوّا، الشاعر والمنتحل، بأنّه يستيقظ. احتسى قهوته في الحجرة الصغيرة التي يستأجرها وحلق ذقنه وارتدى ملابس أنيقة وفوقها معطفه المشمَّع لأنها تمطر في الخارج. عندما غادر كانت الساعة الثامنة إلاّ ثلثاً، وعند الثامنة بالضبط كان في المحطة واقفاً على مرقاة احدى عربات القطار المتَّجه الى سنتاريم. انطلق القطار في موعده عند الثامنة وخمس دقائق بالضبط. وجلس فرناندو بسوّا في مقصورةٍ قبالة امرأة على مشارف الخمسين مستغرقة في القراءة. كانت تلك المرأة أمّه ولكنّها لم تكن أمه، وكانت مستغرقة في القراءة. فراح فرناندو بسوّا يقرأ بدوره. إذ كان عليه، في ذلك اليوم بالذات، أن يقرأ رسالتين وصلتاه من أفريقيا الجنوبية وتخبرانه عن طفولة بعيدة. كنت كالعشب ولم ينتزعوني، قالت في وقت ما المرأة التي تبدو في الخمسين. راقت العبارة لفرناندو بسوّا فدوَّنها في دفتر صغير. وفي الأثناء كان منظر ريباتيخو يثرى قبالتهما بحقوله ومِرَزَّاته. عندما وصلا الى سنتاريم، استقلَّ فرناندو بسوّا عربة خيل. أتعرف أين تقع دارةٌ منعزلةٌ ومطلية بالكلس؟ سأل الحوذي. كان الحوذي رجلاً قصير القامة على شيء من السمنة، وقد احمرّ أنفه من تعاطي الكحول. بالطبع، قال، انها دارة السيّد كايرو" إني أعرفها جيداً. وساط الحصان. فعدا الحصان على الطريق الرئيسة التي تسعى بين صفين من أشجار النخيل. وفي الحقول تتراءى بين الحين والحين أكواخ من القشّ وفي صَدغِ بابها رجلٌ أسود. ولكن أين أصبحنا؟ سأل بسوّا الحوذي، الى أين تقودني؟ اننا في جنوب أفريقيا، أجاب الحوذي، وإني أقودك الى دارة السيّد كايرو. اطمأن بسوّا وأسند ظهره الى مسند المقعد. آه، انها إذاً أفريقيا الجنوبيّة، هذا بالضبط ما أريد. ووضع ساقاً على ساق بكثير من الرضا ورأى كاحليه عاريين وأنه يرتدي سروالَ بحّار. أدرك أنه طفل واغتبط كثيراً. فجميلٌ جداً أن يكون طفلاً مُرتحلاً في أرجاء أفريقيا الجوبية. أخرج علبة سكائر وأشعل واحدة منها بكثير من التلذّذ. وقدّم واحدةً الى الحوذي فسارع هذا الأخير لاختطافها شاكراً. كان الوقتُ غروباً عندما شارفت أنظارهما دارةٌ بيضاءَ على تلّة مكسوة بأشجار السرو. دارة لا تختلف في شيء عن دارات ريباتيخو، طويلة واطئة ذات مائل مغطّى بقرميد أحمر. سلكت العربة كرّوسة السّرو فيما الحصى يُطقطق تحت العجلات وكلبٌ ينبح في الريف القريب. عند باب الدار وقفت عجوز بنظّارتين وعصبة رأس بيضاء ناصعة. وأدرك بسوّا على الفور أنها عمّة ألبرتو كايرو فوقف على رؤوس أصابع قدميه متطاولاً وقبَّل وجنتيها. لا ترهق ألبرتو كثيراً، قالت العجوز الصغيرة، فصحّته ليست على ما يرام. أفسحت له طريقاً ودخل بسوّا البيت. كانت حجرة واسعة ومفروشة بأثاث متواضع. مدفأة في ركنٍ من الحائط، ومكتبة صغيرة، وخزانة رصفت فيها الأطباق وأريكة وكنبتان. كان ألبرتو كايرو جالساً على كنبة وقد أسند مؤخر رأسه الى الخلف. وكان ذاك ال"هيد ماستر" نيكولاس أستاذه في المدرسة الثانوية. لم أكن أعلم أن كايرو هو أنت، قال فرناندو بسوّا وقد انحنى احتراماً. بادله البرتو كايرو بإيماءة متعبة تدعوه الى الاقتراب منه. تعالَ يا عزيزي بسوّا، قال، لقد استدعيتك الى هنا لأنني أردتُ أن تعرف الحقيقة. في تلك الأثناء دخلت العمَّة حاملة صينية وضعت عليها فناجين الشاي وبعض قطع الكعك. حمل كلٌّ من بسوّا وكايرو فنجانه، وحرص بسوّا ألاّ يرفع خنصره وهو يحمله بين الأبهام والسّبابة، لأنّ ذلك قد يبدو أمارةً على قلّة اللباقة. سوّى ياقة بدلة البحار التي يرتديها وأشغل سيكارة. أنت أستاذي، قال. أطلق كايرو تنهيدة "ثم" ابتسم. انها حكاية طويلة، قال، ومن غير المجدي أن أحكيها لك بتفاصيلها، وذكاؤك سيعينك على فهمها حتى لو أغفلتُ منها بعض الفقرات. ولكن عليك أن تدرك أمراً واحداً وهو أنني أنت. أحتاج المزيد من الشَّرح، قال بسوّا. إني الجانب الأعمقُ فيك، الجانب المُعتم منك. صَدَح رنينُ جرسٍ في قرية مجاورة معلناً الساعة. وأنا، ماذا ينبغي أن أفعل؟ سأل بسوّا. ينبغي أن تتبع صوتي، قال كايرو، ستسمعني في اليقظة والنوم، وأحياناً سأزعجك، وقد تودّ في أحايين أخرى ألاّ تسمعني. ولكن ينبغي أن تصغي إليّ، ينبغي أن تمتلك شجاعة الإصغاء لهذا الصوت إذا كنت تريد أن تكون شاعراً عظيماً. سأفعل، قال بسوّا، أعدك بذلك. نهض واستأذن الرحيل. كانت عربة الخيل في انتظاره أمام الباب. كان قد أصبحَ رجلاً، من جديد، ونبتَ شارباه. الى أين أقلّك؟ سأله الحوذي" أوصلني الى نهاية الحلم، قال بسوّا، فاليوم هو اليوم المشهود في حياتي. كان الثامن من أذار، ونور شمس باهت بنسربُ عبر نافذةِ بسوّا. * هذا النص هو حلم من أحلام الشاعر فرناندو بسوّا كما دوّنه تابوكي، وهو ينتمي الى أعماله الكثيرة التي تفرد في متنها حيّزاً ولو جزئياً لطيف فرناندو بسوّا. والكتاب عنوانه "أحلامُ أحلام" كريستيان بورغوا 1994 للترجمة الفرنسية. ترجمة بسام حجار