يكتب خوسيه ساراماغو عن لشبونة، كما كتب جيمس جويس عن دبلن، او فلوبير عن باريس. يبدأ من ذاكرة شخصية ولد عام 1922 ثم يعمم ملاحظاته، مستخدماً الارشيف وصحف السنوات السابقة للحرب العالمية الثانية، كي يرسم بانوراما جغرافية وسياسية للبرتغال "الصغيرة" في أوروبا ثلاثينات القرن، زمن صعود الفاشية في إيطاليا وإسبانيا ووصول سالازار الى الحكم في البرتغال. يفعل ساراماغو ذلك بحيلة بديعة: يذهب الى عالم الشاعر البرتغالي فرناندو بيسّوا ليستعير من "بلاد العجائب". شاعراً برتغالياً آخر هو ريكاردو رييس، واحد من ثلاثة شعراء معروفين هم صنيعة بيسّوا ذاته. بالاضافة الى رييس اخترع بيسّوا ألبرتو كايرو وألغارو دي كامبوس ورابعاً عمّده برناردو سواريس وجعله مدوّن يومياته: "كتاب اللادعة". يختار ساراماغو رييس بطلاً لروايته، بسبب هواجس رييس وهمومه السياسية، ويأتي به من منفاه البرازيلي الى وطنه لشبونة بعد ايام معدودة من وفاة الشاعر فرناندو بيسوا في 30 تشرين الثاني نوفمبر 1935 بداء قصور الكلى. هذه هي لحظة البداية: سفينة انكليزية ترسو في مرفأ لشبونة ومطر ينهمر من سماء رصاصية ويصنع مرايا تحيط بالمدينة الغارقة في الصمت. صمت يمتد في التاريخ الى زمن سحيق، زمن عظمة البرتغال وأمجاد فتوحاتها البحرية ومستعمراتها في قارات العالم. بعد 16 سنة في البرازيل يعبر رييس الاطلسي ليزور قبر بيسّوا. من هو بيسّوا بالنسبة الى رييس؟ في مكتبات لشبونة سيقرأ رييس في الصحف خبر نعي بسّوا ويقرأ عن الاسماء المستعارة التي كان يستخدمها في كتاباته الشعرية والنثرية، وبين هذه الاسماء سيقرأ اسمه، وحين يقرأ اسمه يهزأ من كتبة الصحف الذين يغرقون في قطرة ماء: كيف اكون اسماً مستعاراً لشاعر مات قبل ايام وأنا هنا، بلحمي ودمي، اقرأ في صحيفة، وثمة غرفة تنتظرني في الفندق القريب؟ يسأل رييس نفسه. يسأل نفسه، ويسأل القارئ ايضاً. وساراماغو لا يمنحنا الجواب. الرواية نفسها هي الجواب، والاقتباس من كتاب "اللادعة" الذي يفتتح الرواية: "اذا قالوا لي انه من العبث الكلام عن شخص لم يوجد قط، فسوف اجيب بأنني لا املك اي دليل ان لشبونة موجودة، او انني انا الذي يكتب موجود، او اي شيء آخر اينما كان". لا شيء موجوداً. كل شيء خيال. يستعير ساراماغو من بيسّوا احساسه العميق بهشاشة العالم وتأرجحه على حافة الحلم، ويترك لبطله رييس ان يستعير من مكتبة الباخرة التي حملته من أميركا الجنوبية الى أوروبا رواية بوليسية بعنوان: "إله المتاهة" للكاتب الايرلندي هربرت كواين. هذه الرواية تلازم رييس طوال الاشهر التسعة التي تستغرقها "سنة موته" لبلوغ خاتمتها. وسننتهي من كتابنا الذي ألّفه ساراماغو قبل ان ينتهي رييس من قراءة كتابه الذي ألّفه هربرت كواين. يلعب ساراماغو بذكاء، ثم ينتقل الى الاستعراض السياسي. اللعبة الجميلة هي العلاقة بين بسّوا ورييس، واللقاءات والحوارات بينهما، في غرفة الفندق، او في الشوارع، او في البيت الذي استأجره رييس فيما بعد قبالة النهر. اللعبة ايضاً هي المتاهة، شوارع لشبونة والكتاب الغريب الذي يقرأ رييس فيه صفحات قليلة ثم يرمي به جانباً، كأن لا احد يقدر ان ينتهي من قراءة هذا الكتاب. ولكن من هو هربرت كواين؟ يخبرنا ساراماغو على لسان رييس ان كواين كاتب إيرلندي، ولا يزيد شيئاً. ويتأمل رييس في معنى كلمة كواين في اللغة البرتغالية - لا الانكليزية - ويكتشف انها تعني "مَنْ؟" او "لا أحد". وقارئ الادب يتذكر فوراً كواين، او كوين، في ثلاثية لكاتب أميركي، ثم يتذكر اين قرأ اسم الكاتب والكتاب. عندئذ يكتشف القارئ ان "إله المتاهة" كتاب غير مكتوب، وان هربرت كواين هو كاتب لم يوجد الا في مخيلة كاتب أرجنتيني يُدعى خورخيه لويس بورخيس. في سنة 1941 كتب بورخيس قصة قصيرة بعنوان "فحص لأعمال هربرت كواين". في القصة المذكورة اخترع بورخيس - على عادته - كاتباً وكتباً وقام بمراجعة للكاتب ومؤلفاته. بدأ بورخيس هذه العادة بقصته "مقاربة للمعتصم" المنشورة للمرة الاولى سنة 1935. يبدأ بورخيس قصته عن كواين بخبر وفاته الذي يقرأه في ملحق "التايمز" الادبي. وفي صحيفة اخرى يقرأ بورخيس عن كتاب كواين الاول "إله المتاهة"، الذي يقارنه البعض بأعمال أغاتا كريستي وفي لحظة من الانخطاف يتساءل القارئ: وهل وجُدت أغاتا كريستي حقاً؟ هل وُجد بورخيس؟ هذه الاسئلة في ذهن القارئ حضرت ايضاً في ذهن ساراماغو ربما وهو يخطط لكتابه. لكن ساراماغو - بعكس بورخيس وبسّوا يقول بورخيس عن بسّوا انه شاعر البرتغال الاوحد، الذي "كتب لنفسه لا للشهرة" - لا يريد ان يكتب مثل بورخيس الا بمقدار. ماذا يريد ساراماغو ان يكتب عندما يكتب عن عودة رييس الى لشبونة غداة وفاة بسّوا؟ انه يريد ان يكتب رواية سياسية. لذلك يجد القارئ نفسه في مأزق: الفصل الاول من "سنة موت ريكاردو رييس" هو من الفصول البديعة في تاريخ الادب: وصف لشبونة تحت المطر، ولا - دعة المسافر المستترة في التاكسي التي تأخذه الى فندق قرب النهر، وكآبة السماء ذاتها، ولحظة تدوين المسافر لاسمه وتاريخ ميلاده في سجل الفندق، هذا الوصف المتريث الهادئ، المكتوب بلغة انيقة وساحرة، تذكر بزمن سابق وشبه خيالي نحس بهذا حتى في الترجمة الانكليزية الصادرة اخيراً في طبعة جديدة عقب نيل المؤلف جائزة نوبل، بالاضافة الى قدرة الجو والمناخ الماطر على امتصاص القارئ الى قلب متاهة رييس، هذا كله يصنع الرواية في مكان لن يلبث ان يبدأ بفقدان جزء من قوته مع مضينا في القراءة. لماذا؟ لأن ساراماغو يصر على كتابة رواية تحيط بأحوال البرتغال في زمن صعود سالازار. هل يقدم هذا الاصرار شرحاً لشهرة ساراماغو في وطنه؟ وفي العالم؟ يقدر ساراماغو ان يكون "صوت البرتغال"، لكننا نتساءل هل نجح فعلاً في ان يكون صوتاً لبيسّوا؟ وهل تمكن من بلوغ الصفحة الاخيرة من كتاب "إله المتاهة"، أم انه مثل بطله رييس، لم يبلغ الخاتمة!