على رغم مرور عام على زلزال تفجيرات نيويوركوواشنطن في الحادي عشر من أيلول سبتمبر من العام المنصرم فإنه ما من أحد في العالم يستطيع أن يرسم صورة كاملة لهذه الجريمة ولا يحدد بشكل قاطع من يقف وراء هذه العقليات الشيطانية التي دبرتها أو أن يجزم في الرد على الاسئلة المتعلقة بالهوية الحقيقية للمخطط والمدبر والمنفذ والعارف والساكت والمتآمر والمتواطئ والمسهل؟ وما هي الأهداف الحقيقية الكامنة وراء هذه العملية المدمرة التي لم تحمل سوى الخراب والدمار للعرب والمسلمين والاساءة لصورتهم في العالم. صحيح ان اسامة بن لادن قد اعترف، او ادعى مسؤوليته في رسائل تلفزيونية مسجلة وان عدداً من اركان قاعدته في افغانستان وخارجها قد تباروا في تبرير هذه التفجيرات وتلميع صورتها ونجاحاتها الوهمية... وصحيح ان الاعتقالات وسجلات الاسماء المتهمة بالتورط فيها أو بالمشاركة في عملية التنفيذ تشير الى دور "القاعدة" ومسؤوليتها الا ان الولاياتالمتحدة لم تقدم حتى الآن الدليل الحسي المتكامل والدافع الذي يمكنها من الشروع في محاكمة المتهمين والمسؤولين ولو غيابياً. فالشكوك ما زالت كثيرة والتساؤلات كبيرة والألغاز تبحث عمن يفك أسرارها ويكشف خباياها خصوصا وان المعلومات المترددة في الولاياتالمتحدة تنثر الكثير من الغبار وتثير الشبهات حول تقارير حذرت من العملية قبل وقوعها ووصل بعضها الى الاستخبارات المركزية ال"سي اي ايه" والبيت الابيض والبنتاغون. وقيل ان بعض التقارير كان محدداً وواضحاً ويتحدث عن شبان عرب يتدربون على الطيران تمهيداً لعمليات قد تشمل خطف طائرات، كما وردت تقارير وتحذيرات للولايات المتحدة من دول مثل مصر والأردن وبريطانيا. وقيل في تبرير عدم اتخاذ تدابير وقائية واجراءات احترازية لمنع العملية الارهابية ان التقارير كانت غامضة وأن الوقت لم يسمح للرئيس جورج بوش بالاطلاع عليها مثلها مثل "خطة الحرب" المفصلة للقضاء على شبكة "القاعدة" ونظام "طالبان" في افغانستان التي كانت على المكتب البيضاوي قبل يومين من التفجيرات أي في التاسع من ايلول، وتقترح استخدام وسائل تراوح بين الديبلوماسية للضغط على دول العالم لدعم التوجه الاميركي، والقوة العسكرية الساحقة وهو ما تم تنفيذه بالفعل عقب الزلزال. وحسب ما اعلن فإن هذه الخطة كانت معدة للتنفيذ بعدما يوقعها الرئيس بمرسوم رئاسي ولكنه لم تتح له الفرصة لتوقيعها قبل الحادي عشر من أيلول. وتردد الكثير خلال العام المنصرم حول المكاسب التي حققتها الولاياتالمتحدة من وراء هذا العمل الأهوج على رغم كلفتها الغالية والثمن الباهظ الذي تدفعه من ميزانيتها وسمعتها وأمنها واقتصادها. كما نشرت آلاف التعليقات والتحليلات التي تتحدث عن النظام العالمي الجديد والفعلي الذي ظهرت معالمه بعد التفجيرات وتكريس الهيمنة الكاملة للولايات المتحدة على العالم في اطار ما يسمى حربها ضد الارهاب ووفق مصطلح جديد في قاموس العلاقات الدولية وهو: اما معنا أو ضدنا، فليس هناك من مجال للحياد أو الرأي الآخر أو للرفض والتردد في منح واشنطن "شيكاً على بياض" في كل خطوة من خطواتها وفي كل قرار تتخذه والموافقة على كل عمل تتخذه أو تنوي اتخاذه مهما كان خطيراً أو خاطئاً أو مهددا لمصالح الدول الأخرى... فالنظام العالمي الجديد مسح كل القيم السابقة واستغنى عن الاممالمتحدة والوفاق الدولي والمنظمات والتحالفات وأسس لوضع جديد متسلط يقوم على سيادة كلمة الولاياتالمتحدة في العالم... وما على باقي الدول إلا الرضوخ والسمع والطاعة. وما قيل بعد تفجيرات نيويوركوواشنطن وما تردد من تحليلات وتوقعات وتكهنات قيل من قبل عند انهيار الاتحاد السوفياتي وتفكك المعسكر الاشتراكي وانتهاء الحرب الباردة، بل يمكن القول انه مكمل له لرسم صورة النظام العالمي الجديد، كما ان الشكوك والألغاز التي رافقت الخطيئة التي ارتكبها النظام العراقي بغزوه الكويت في الثاني من آب اغسطس 1990 ورفضه كل الوساطات والجهود المبذولة لمنع ما جرى تشبه الى حد بعيد السيناريو الذي شهدناه خلال التفجيرات وبعدها والتعنت الذي أبداه نظام "طالبان" وعدم سماعه النصائح والجهود المبذولة لتجنيب أفغانستان الكارثة التي لحقت بها. وفي كل الأحوال كانت كل النتائج يصب في خانة واحدة وهي شكل النظام العالمي الجديد والدولة المهيمنة عليه، وفي مصب واحد وهو مصالح الولاياتالمتحدة، ففي حالة حرب افغانستان الأولى التي استخدم فيها المسلمون كأداة ووقود لتفكيك الاتحاد السوفياتي تحت ستار "الجهاد" ضد الكفرة والملحدين الشيوعيين. وفي حالة غزو الكويت تحقق للولايات المتحدة ما لم تكن تحلم به أو تحقق جزءاً يسيراً منه في الظروف العادية من سيطرة على منابع النفط وتأمين المصالح واقامة قواعد ونقاط ارتكاز وانطلاق. وفي حالة تفجيرات نيويوركوواشنطن امتدت هذه المكاسب الى آسيا الوسطى ودولها الاسلامية والى منابع النفط والغاز وخطوطه المحددة وتم تأمين قواعد جديدة ومواقع استراتيجية مهمة لتثبيت الهيمنة الكاملة ومحاصرة دول رئيسية لقلب موازين القوى في أي صراع مستقبلي. وسبق ان شبهت التفجيرات بالزلزال الخطير نظراً لما تسببت به من متغيرات وآثار ومفاعيل وانعكاسات وأضرار، وما لتردداتها المرتقبة من مخاطر على العالم وعلى الدول العربية والاسلامية وبشكل خاص على قضاياها الرئيسية وفي مقدمها قضية فلسطين التي خسرت الكثير من أوراقها في الحالات الثلاث التي أشرت اليها: انتهاء الحرب الباردة واسقاط ورقة التوازنات الدولية والدعم المزعوم للفلسطينيين، وغزو الكويت والاضرار التي لحقت بالشعب الفلسطيني المهاجر والمقيم والتي كان من مسبباتها الدخول في دوامة اوسلو وما تبعها من انتكاسات، وأخيراً تفجيرات نيويوركوواشنطن التي شكلت الضربة القاضية التي شلت قدرات الشعب الفلسطيني وعرضته مع غيره من الشعوب العربية للذل والهوان والسكوت على الضيم خوفا من أن يتهم بالارهاب طالما ان العاصفة هوجاء وتحصد رؤوس من يتعرض لها. وبعيداً عن احاديث المصالح الاميركية والنفط والغاز والاستراتيجيا والصراعات المرتقبة والنظام العالمي الجديد والهيمنة الاميركية وترددات ما جرى على العالم يهمنا ان نسعى لمعرفة حصيلة عام بعد الزلزال على العرب والمسلمين ورصد حسابات الخسائر والاضرار والاخطار المتجمعة في نقطتين رئيسيتين: 1- صورة العرب والمسلمين: ويمكن القول انه ما من دولة عربية او اسلامية الا وتضررت من جراء هذه العمليات الخرقاء بغض النظر عن مبرراتها وأهدافها وهوية منفذيها والمحرضين عليها. علماً ان عملية الشحن الدعائي والنفسي والعدائي قد سبقت 11/9 وبلغت ذروتها إبان سنوات انهيار الاتحاد السوفياتي وزوال الخطر الشيوعي حيث ظهرت نظريات تحريضية ظاهرها علمي وتحليلي وباطنها حاقد ومغرض ومشبوه تصور الاسلام وكأنه الخطر الوحيد القادم الذي يهدد الحضارة الغربية والعالم. ومن هنا انتشرت شعارات مثل "صراع الحضارات" و"الارهاب الاسلامي والعربي" ونهاية التاريخ و"الاسلاموفوبيا" وبكل اسف فإن بعض الجهات والحركات والشخصيات الاسلامية قد اسهم في الترويج لهذه النظريات وقدم الحجج والذرائع للجهات المعادية للمضي في غيها ومنحته وقوداً لاذكاء نيران حقدها وحملاتها المغرضة والتحريضية سياسيا واعلاميا واخيرا ماليا. ومن يحاول رصد حسابات الاضرار يدرك جيدا خطورة ما جرى ولا سيما على الجاليات العربية والاسلامية التي بدأت تنخرط في مجتمعاتها الجديدة وتلعب دورا ملفتا ومؤثرا في مراكز القرار ثم على آلاف الطلاب الجامعيين العرب ثم على المراكز الاسلامية والثقافية التي بدأت تحتل مواقع متميزة في الغرب بعدما شهدت ازدهاراً كبيراً ولقيت تشجيعاً حتى من حكوماته. 2- قضية فلسطين، واستطراداً قضية السلام في المنطقة، فقد وجدت الصهيونية العالمية المتمثلة باسرائيل ما جرى في نيويوركوواشنطن فرصة ذهبية ثمينة لا تعوض لتنفيذ أغراضها الخبيثة وخططها الجهنمية واستغلتها أبشع استغلال لضرب عصفورين بحجر واحد: الشعب الفلسطيني وسلطته الوطنية والبنى التحتية التي أقامها بدم قلبه ومسيرة السلام والتزاماته وكل ما تحقق أو تم الاتفاق عليه من مبادرة السلام الاميركية جورج بوش الأب ومرجعية مدريد ومبادئ الشرعية الدولية والأرض مقابل السلام الى اتفاقات أوسلو وتوابعها ومفاعيلها. فقد ركب ارييل شارون ومعه حكومته الليكودية العنصرية المتطرفة موجة "الحرب ضد الارهاب" التي أطلقتها الولاياتالمتحدة واطلق خطة جهنمه وأفلت العقال لآلته العسكرية المتوحشة، لتضرب وتحرق وتقتل وتشرد وتعيد احتلال الأراضي الفلسطينية وترهب الشعب الفلسطيني وتحاصره وتنهب ثرواته على أمل أن تنجح، لا سمح الله، بتجويعه وتركيعه وحمله على "الزحف" على بطنه رافعاً راية الاستسلام في وجه اسرائيل. وقد نجح الشعب الفلسطيني المقدام في الصمود والتصدي ومجابهة قوى الشر وارهاب الدولة وضرب مثلا للعالم كله في الجهاد والنضال والاستعداد للتضحية والفداء ولكن هذه الوقفة البطولية الرائعة لا تمنعنا من تسجيل حجم الأضرار التي لحقت به وبقضيته وبسلطته الوطنية وبالسلام وبالعرب والمسلمين أجمعين نتيجة لزلزال نيويوركوواشنطن. ولكن هل يعني ذلك ان علينا ان نستسلم للواقع الأليم ونتواكل ونرفع الرايات البيضاء؟ بالطبع لا وألف لا فالمطلوب من العرب الآن: القيادات والشعوب والأفراد ان يأخذوا العبرة والدروس من التجارب المريرة التي مرت بهم خلال هذا العام وأن يعملوا على تحديد مواطن العلل والضعف ويبحثوا عن أوراق القوة التي يمكن أن يستخدموها للدفاع عن قضاياهم ووجودهم وسمعتهم وهي كثيرة وأولها توحيد الكلمة والصف واستخدام العقل والحكمة، والكف عن تقديم الحجج والذرائع والخدمات المجانية للآخرين... وللأعداء. فلكل دولة مصالحها وأجندتها الخاصة، والولاياتالمتحدة بالذات لن تتراجع عن تنفيذ سياستها وهي الآن، بعد عام على الزلزال، تبحث عن نصر ما يعيد لها الاعتبار بعدما فشلت في اعتقال أو قتل زعيم "القاعدة" ورموزها وزعيم "طالبان"، تماماً كما فعلت مع الرئيس العراقي بعد تحرير الكويت، ولهذا نجدها تحاول اليوم اكمال ما بدأته وامتنعت عنه في السابق وهو ما تصفه "بتصحيح خطأ" في استراتيجية حرب الخليج الثانية بتوجيه الضربة المدمرة للعراق ونظامه. وهذا يعني ان المنطقة مقبلة على "خضات جديدة" وربما زلازل اخرى لا يجوز، ولا عذر لأي مسؤول عربي في أن يعمل من الآن على تحصين الموقف ورص الصفوف وتدارك ما يمكن تداركه من أخطار وخسائر وأضرار فالقادم خطير والمخفي أعظم، وما يدبر للمنطقة أكبر من التصور. وبعد هذا، وعلى رغم جسامة رصيد حصيلة عام على الزلزال نسمع من يبرر ما جرى ويدعو للمزيد ويثير الفتن والغرائز كأنه لم يكف امتنا ما قاسته من طعنات ومؤامرات وخطايا وآلام وما دفعته من أثمان باهظة نتيجة لتصرفات طائشة وعمليات مدمرة ارتدت الى صدورنا جميعاً. كاتب وصحافي عربي.