قررت الحكومة السودانية الانسحاب من مفاوضات السلام الجارية في ضاحية مشاكوس قرب العاصمة الكينية نيروبي احتجاجاً على استيلاء "الحركة الشعبية لتحرير السودان" بزعامة جون قرنق على مدينة توريت ثاني اكبر مدن جنوب السودان. واعلنت قيادة الجيش السوداني التعبئة العامة، وان كل جبهات القتال ستكون مفتوحة، وانها بدأت بحشد مقاتيلها واستنفارهم. لكن "الحركة الشعبية" اكدت انها لم تتلق اخطاراً رسمياً من الوسطاء يفيد بانسحاب الوفد الحكومي. وذكرت انها ترغب في مواصلة محادثات السلام، محذرة الجيش الحكومي من شن اي هجمات عسكرية على مواقعها. وأبلغت مصادر قريبة من المتفاوضين في مشاكوس "الحياة" أمس ان مستشار الرئيس السوداني لشؤون السلام الدكتور غازي صلاح الدين سلم الوسيط الكيني الجنرال لازوراس سيمبويو مذكرة أمس بعد انسحاب وفده يطلب فيها ردوداً على قضيتين قبل استئناف المحادثات. وتتعلق الأولى ب"تجاوز الحركة الشعبية مرجعية بروتوكول مشاكوس عن حدود الكيان الجنوبي بعد إقحامها المناطق المهمشة جبال النوبة والانقسنا وابيي. وتتعلق القضية الثانية ب"وقف الأعمال العدائية بين طرفي النزاع". وذكر صلاح الدين أن وفده لن يعود الى طاولة التفاوض إذا لم يتلق رداً مقنعاً في هذا الصدد. وفي الخرطوم اعلن الناطق باسم الحكومة وزير الإعلام الزهاوي ابراهيم مالك ان حكومته "قررت وقف مفاوضات السلام الى حين توافر اجواء مناسبة لاستئنافها، بما يعكس الجدية والموضوعية في الوصول الى سلام دائم وشامل". وأضاف ان الاتصالات جارية مع أطراف التفاوض والوسطاء لابلاغهم قرار حكومته، كما سيعقد القطاع السيادي برئاسة الرئيس عمر البشير اجتماعاً اليوم لمناقشة ما يترتب على قرار تعليق المفاوضات. وفي الاطار ذاته، قال وزير الخارجية السوداني الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل عقب اجتماع عقده مع نظيره المصري احمد ماهر في القاهرة امس، ان "احتلال حركة التمرد مدينة توريت خلقت اجواءً غير مواتية بالنسبة الى عملية السلام". وان مفاوضات مشاكوس ستعلق. واضاف ان حكومة بلاده باشرت تعبئة الجبهة الداخلية خلف القوات المسلحة "التي سوف تعيد ترتيب أوضاعها لإيقاف تقدم العمليات العسكرية التي تشنها حركة التمرد، واستعادة الأراضي التي احتلتها حركة التمرد بعد توقيع بروتوكول ماشاكوس" في20 تموز - يوليو الماضي. قرنق يواصل المفاوضات لكن الناطق باسم "الحركة الشعبية" ياسر عرمان اكد ل"الحياة" في اتصال هاتفي بنيروبي، ان "الحركة سمعت بمقاطعة الوفد الحكومي من اجهزة الاعلام ولم تتبلغ رسمياً من قبل الوسطاء ما يفيد بانسحاب الوفد الحكومي من المفاوضات"، موضحاً "ان رئيس وفد النظام كان هذا الصباح امس مع الوسطاء ولم يعلن الانسحاب". واشار الى وجود مشاورات بين الوسطاء والاطراف وان المشاورات هي جزء من عملية التفاوض، وزاد قائلا :"سمعنا عن انسحاب الوفد الحكومي من وزير الخارجية مصطفى عثمان اسماعيل عبر أجهزة الاعلام وننتظر اخطاراً رسمياً يؤكد انسحاب الوفد الحكومي". واكد عرمان ان "الحركة الشعبية مستعدة لمواصلة التفاوض ... نحن موجودون والوفد الحكومي موجود ايضاً في المكان نفسه". جبهات مفتوحة وكانت قيادة الجيش السوداني أعلنت أنها باتت في حل من سياسة ضبط النفس ولن تكتفي باستعادة مدينة توريت الاستراتيجية من قبضة "الحركة الشعبية لتحرير السودان"، بل ستواصل إلى ما وراء ذلك. وان كل جبهات القتال ستكون مفتوحة، وبدأت حشد مقاتيلها واستنفارهم. وقال الناطق باسم الجيش الفريق محمد بشير سليمان في مؤتمر صحافي عقد في مقر نادي الضباط في الخرطوم ان "حركة التمرد قصفت توريت قبل يومين بالصواريخ ثم دفعت بثلاث موجات من مقاتليها ضد الجيش الذي بدأ يتهيأ لتأمين المنطقة، لكنه فوجئ بحشود كبيرة مزودة أسلحة وعتاداً كثيفاً مما اضطره إلى الانسحاب لترتيب أوضاعه"، لافتاً إلى أن عدد قوات "الحركة" التي هاجمت المدينة يتجاوز تسعة آلاف مقاتل، بينما لا يزيد عديد الجيش عن أربعة آلاف. واعتبر أن "ما حدث في توريت ليس نهاية المطاف"، وان قواته "خسرت معركة ولم تخسر الحرب". واتهم زعيم "الحركة الشعبية" جون قرنق بأنه غير راغب في السلام. وقال إن القيادة العسكرية رفعت درجة الاستعداد واسنفرت قواتها وبدأت في حشدها ونقلها إلى جنوب البلاد و"لن تكتفي باستعادة توريت، بل ستواصل إلى ما وراء ذلك حتى تقتنع حركة التمرد بأن الحرب ليست وسيلة مناسبة لتحقيق الأهداف". مشيراً إلى أن باب العمليات سيكون مفتوحاً في كل المسارح. الجيش و"مشاكوس" وأوضح الفريق سليمان "ان الجيش يدرك أن السلام بات رغبة شعبية، لكن كان لديه محاذير ورؤى في شأن بروتوكول مشاكوس، إلا أنه التزم القرار السياسي لخلق مناخ موات للسلام". واتهم "الحركة الشعبية" باستغلال فترة الهدنة في حشد قواتها ونقلها إلى شرق الاستوائية القريبة من الحدود مع اوغندا. وأضاف: "كل المعلومات كانت تشير إلى أنها الحركة الشعبية تخطط لأعمال عدائية... بعد الآن لا أرى سبباً يدعونا إلى القعود والحديث عن سلام لا نراه متوافر في الطرف الآخر". وتوقع أن تتخذ القيادة السياسية قراراً منسجماً مع هذه الروح. ووصف "الحركة الشعبية" بأنها "حركة متمردة وستظل كذلك حتى توقع اتفاقاً مع الجيش على وقت اطلاق النار". وعن مشاركة أي قوات أجنبية في عملية توريت، قال سليمان إنه لا يستطيع تأكيد مشاركة أي جهة خارجية. البشير وقيادة الجيش إلى ذلك، عقد الرئيس عمر البشير، الذي يتولى قيادة الجيش، لقاء مع قادته العسكريين في حضور وزير الدفاع اللواء بكري حسن صالح، وبحث في الوضع العسكري في مناطق العمليات بعد استيلاء "الحركة الشعبية" على توريت. وقال الفريق سليمان إنه تقرر أن تستمر "القوات المسلحة فيما كانت تخطط له بعد تداعيات الموقف لتجاوز هذه المرحلة بعمل متكامل لن يمكن الحركة من تحقيق غاياتها التي أعلنتها". وهدد "الحركة الشعبية" بعمليات شاملة، وقال: "نؤكد إلى الخائن جون قرنق والعملاء الذين يقاتلون معه ان القوات المسلحة ستعالج هذا الأمر وستلقنه درساً لن ينساه حتى يدرك أن الحرب والقتال لن يحققا له الأهداف التي يرمي إليها". وأضاف ان القيادات العسكرية رأت أن هذه المرحلة الدقيقة تحتاج إلى تماسك الجميع لاحتواء الموقف وتجاوزه إلى وضع أفضل، و"ستعمل القوات المسلحة بحسم وجد لإعادة الأمور إلى نصابها". لكن عرمان اعتبر ان الخرطوم التعبئة "كشف النيات الحقيقية للنظام السوداني الذي كان اصلا كان في حال هجوم شامل من دون اعلان، والجديد هو إعلانه ذلك على الملأ وهذا ما كنا نؤكده نحن من قبل". وزاد "ان خطة النظام العسكرية والتي يصمت البعض عن تسميتها واضحة للعيان. والحركة الشعبية ملتزمة السلام ومواصلة العملية السلمية". لكنه "حذر القوات الحكومية من شن اي هجوم عسكري على مواقعنا". الى ذلك يعتبر مراقبون الموقف الحكومي المعلن لمقاطعة المفاوضات بأنه احتجاج ومحاولة للضغط على قرنق من قبل الوسطاء، واعلان وقف شامل للنار. وعلمت "الحياة" ان الوفد الحكومي كان دعا في بداية المفاوضات على لسان رئيس وفده في الجلسة الافتتاحية الى وقف شامل للنار، واعرب في الوقت نفسه عن اسف الحكومة على ارواح الضحايا الذين سقطوا بعد اتفاق مشاكوس في العمليات العسكرية. كما دعا ممثل "ايغاد" الجنرال سيمبويا الطرفين عند افتتاح المفاوضات الى دراسة اقتراح الرئيس الكيني دانيال آراب موي الطرفين وقف الاعمال العدائية لابداء حسن النيات. المبعوث الاميركي من جهة أخرى، اختتم المبعوث البريطاني إلى السلام في السودان السفير ألن غولتي محادثات مع المسؤولين في الخرطوم استمرت يومين بعد زيارة مفاجئة. وعلم أن غولتي ناقش مع المسؤولين في تطورات الأوضاع العسكرية وحاول تهدئة القيادة السودانية وتخفيف ردة فعلها على هذه التطورات حتى لا تؤدي إلى تعطيل مفاوضات السلام في مشاكوس. وسعى إلى التأكيد على انه لا يوجد اتفاق على وقف النار، ولذلك ينبغي أن لا تؤثر التطورات العسكرية على المحادثات الجارية المقرر أن تستمر حتى منتصف الشهر.