ننشر اليوم وغداً تحقيقاً من تاريخ لبنان القريب عن اللعبة السياسية المحلية والمؤثرات العربية، خصوصاً السورية، في انتخاب المسؤولين الكبار، والمؤثرات الأميركية الايجابية، والسوفياتية السلبية في هذا الانتخاب. عام 1958 انتخب قائد الجيش اللواء فؤاد شهاب رئىساً للجمهورية اللبنانية بتوافق عربي - أميركي طرفاه جمال عبدالناصر رئيس الجمهورية العربية المتحدة وروبرت مورفي مبعوث الرئىس الاميركي ايزنهاور الى لبنان، وأدى هذا الانتخاب الى نهاية سلمية للأحداث الدموية التي شهدتها الساحة اللبنانية ذلك العام ودامت سبعة اشهر، وفي آذار مارس من العام 1959 عقد اجتماع الخيمة الشهير بين شهاب وعبدالناصر على الحدود اللبنانية - السورية وشمل اتفاقهما بندين اساسيين، الاول عدم تدخل الجمهورية العربية المتحدة بالشؤون اللبنانية الداخلية وفي الوقت نفسه حماية الأمن السوري في لبنان، بمعنى منع اي تحركات في بيروت تستهدف نظام الحكم في دمشق. اما الثاني فيقضي بأن يتبع لبنان سياسة عربية واضحة تقتضي عدم الدخول في الاحلاف الاجنبية وتحاشي الانحياز للمعسكرات العربية - العربية. وعام 1964 فشلت محاولة تجديد الرئاسة لشهاب لسببن، اولهما: عدم استعداد شهاب نفسه لخوض مغامرة التجديد لمعرفته بعواقبه في لبنان. والثاني: لتخلي الاميركيين عن تأييده نتيجة تدهور العلاقة بينهم وبين عبدالناصر في تلك المرحلة. وعام 1970 كانت عودة شهاب الى الرئاسة متوقعة بقوة لأن تلك العودة لا تتطلب تعديل الدستور وتجيزها القوانين ولا تدخل في قاموس التجديد صاحب السوابق المرفوضة في لبنان. لكن محاولات هذه العودة التي جند لها الشهابيون كل قواهم السياسية والعسكرية، حصدت فشلاً ذريعاً وكانت نتائجها كارثة تمثلت بموقف عنيف للرئىس شهاب عزف فيه عن الترشيح معللاً ذلك بأسباب مبدئية شرحها ببيان صيغ بلهجة أقرب الى "الثورية"، وآذنت من ناحية اخرى بنهاية الشهابية في لبنان كحكم وطريقة حكم. وشكلت محاولة العملاء السوفيات خطف طائرة "ميراج" من مطار بيروت سبباً رئىسياً في فشل الشهابيين في معركة رئاسة الجمهورية عام 1970، وكان هذا الحادث قد اثار السوفيات وجعلهم ينقمون نقمة شديدة على الشهابيين والاجهزة الشهابية. انما غير المعروف الى الآن ان عبدالناصر ساند النقمة السوفياتية ورفض اطلاقاً محاولات رئىس مجلس النواب صبري حماده ورئىس الحكومة رشيد كرامي في حينه اقناعه بعودة شهاب او حتى بمساندة مرشح شهابي غيره باعتبار ان القاهرة "تمون" على بعض الكتل النيابية ما ادى الى فشل المرشح الشهابي الآخر الياس سركيس بصوت واحد، وأدت هذه النتيجة الى انقلاب سياسي فعلي في لبنان فقام حكم جديد بادر الى شن حملة شديدة عارمة على الشهابيين من بعض اوجهها احالة ضباط المكتب الثاني الاستخبارات العسكرية على المحاكمات، انما المفارقة هنا ان عبدالناصر الذي ساند شهاب للرئاسة عام 1958 هو نفسه الذي عارضه عام 1970 وساهم، اراد ام لم يرد، في نهاية الشهابية من الساحة السياسية والعسكرية اللبنانية. لكن الغريب الذي لم يتنبه له الكثيرون هو ان الشهابية انتهت في لبنان في العام نفسه بل ربما الشهر نفسه الذي انتهت فيه الناصرية في مصر. ففي ايلول سبتمبر من العام 1970 انتخب رئيس جمهورية جديد في لبنان شهد عهده ملاحقات جذرية للشهابيين، وفي 28 من الشهر نفسه رحل عبدالناصر وخلفه انور السادات الذي شن كما هو معروف حرباً ضروساً على الناصرية والناصريين فبعث بهم بالجملة الى سجن "ليمان طره" الشهير. عام 1961 كانت وزارة الاعلام اللبنانية لا تزال تحمل اسمها القديم "وزارة الانباء" ولم تكن انتقلت الى مبناها الحالي في شارع الحمراء، بل كانت تحتل قسماً من الطابق الارضي الشمالي من السراي الكبير، بينما كانت الاذاعة اللبنانية تقوم بجانبها في القسم الآخر. في تلك الايام كان رئىس ديوان "وزارة الانباء" شفيق قرداحي يتولى وحده تقريباً الشؤون الصحافية، وكان صديقاً للصحافيين يلتقون في مكتبه. وفي احد ايام تلك السنة، ولا اذكر التاريخ لأنني اكتب من الذاكرة، وغالباً في أوائلها كنت في طريقي الى مكتب قرداحي، عندما اعترضني حاجب الوزارة، وأبلغني رغبة امين صندوق الوزارة اوسكار تيان بأن امر عليه في مكتبه، واستغربت هذا الطلب لأن معرفتي بتيان كانت جد سطحية، ومع ذلك ذهبت لأسأله ماذا يريد، ففوجئت به يطلب مني التوقيع على ايصال يفترض انني تلقيت من الوزارة مبلغاً من المال لا اذكره. طبعاً احمر وجهي وغلى الدم في عروقي وبلغ بي الغضب مبلغاً شديداً فتناولت الايصال من يده وكتبت على قفاه العبارة الآتية: "هذه اهانة غير مقبولة لكرامتي وكرامة الصحافة ورسالتها وحريتها". وخرجت من عنده وأنا شديد الانفعال، وسارعت وفي اليوم نفسه الى الاتصال بالكثير من الزملاء والمعلقين الابرز في الصحف ورويت لهم تفاصيل ما حدث، وكانت وجهة نظري تقول بوجوب عدم السكوت على الامر، لأن ما جرى يعني ان هناك خطة حكومية لتوزيع رشوات على الصحافيين، وفي ذلك ما فيه من تجريح وإهانة لكرامة أو حرية الصحافيين والصحافة عامة! وتنادينا الى عقد اجتماع شارك فيه كل من الزملاء: ياسر هواري، ميشال ابو جودة، اسعد المقدم، سليم نصار، هشام ابو ظهر، وارتأينا ان نطلب موعداً لمقابلة الرئيس فؤاد شهاب وإبلاغه احتجاجنا الشديد على المحاولات الحكومية لرشوة الصحافيين! ويشهد منح الصلح وكان يومها مستشاراً لوزارة "الانباء" على الجرأة والعناد اللذين واجهت بهما هذا الحادث وسرعة الاتصالات التي اجريتها مع الزملاء الصحافيين في شأنه! أكثر من ذلك بادرت وبسرعة الى كتابة مقال طالبت فيه باستقالة الحكومة التي كانت قائمة لمخالفتها الاصول الدستورية والقانونية في محاولتها رشوة الصحافيين. وظهر المقال في مجلة "الحوادث"، على رغم انني لم اكن اعمل فيها! بعدها حدد لنا القصر الجمهوري موعداً لمقابلة رئيس الجمهورية، كان الرئىس شهاب نقل ايامها مقر القصر الجمهوري من مكانه القديم في شارع القنطاري في بيروت الى دارة متواضعة في بلدة صربا القريبة من جونيه، وتوجهنا، الصحافيون الستة المشار اليهم الى قصر صربا في الموعد المحدد ظهراً، ودخلنا فوراً على الرئىس شهاب في مكتبه فاستقبلنا هاشاً باشاً ومرحباً وملقياً ضمن الترحيب بعض النكات الكسروانية. بداية رويت ما حدث معي، وأكمل ميشال ابو جودة وبقية الزملاء الحديث عن ضرورة حماية حرية الصحافة، محتجين على محاولات السلطة التأثير في هذه الحرية عبر الرشاوى او سوى ذلك من الاساليب. وأذكر ان الرئيس شهاب استقبل هذه الانتقادات بصدر رحب وذكر انه يشاطرنا الرأي وخصوصاً بضرورة المحافظة على صحافة حرة ونزيهة ووعد بإجراء تحقيق لجلاء هذا الموضوع وإزالة كل التباس حوله، وشكرنا ايضاً على صراحتنا وجرأتنا التي تثبت ان كل التقارير التي قدمت له عن وجود عناصر منحرفة في الوضع الصحافي غير صحيحة! في تلك السنة 1960-1961 كان العهد الشهابي انجز المرحلة الاولى من الاصلاحات الهادفة الى بناء الدولة الحديثة. فقد كانت عملية الاصلاح هدفاً رئيساً طرحه ذلك العهد منذ قيامه في ايلول سبتمبر عام 1958. لكن تلك العملية تعرضت الى الكثير من العثرات منذ بداية العهد. فالحكومة الشهابية الاولى برئاسة رشيد كرامي 24/9/1958 الى 14/10/1958 اضطرت للاستقالة قبل ان تمثل امام مجلس النواب، تحت ضغط ما سمي في حينه "الثورة المضادة". وخلفتها تركيبة او حتى خلطة "حكومية رباعية برئاسة كرامي ايضاً وعضوية كل من حسين العويني، ريمون اده، وبيار الجميل من 14/10/1958 الى 14/5/1960. وحتى الآن لا أحد يدري من هو صاحب فكرة هذه "الخلطة الحكومية". الرئىس شهاب نفسه او احد المستشارين، لكن كان واضحاً انها كانت خلطة طائفية قصد منها حصر التمثيل بأكبر فئتين متصارعتين كانت بصمات تصارعهما غالبة في احداث 1958 وهما: الموارنة والسنّة. وحدث يومها ان استقبلت الاذاعة اللبنانية حكومة الاربعة بأغنية ترحيبية تقول: يسلمولي الاربعة طلّو يوم الاربعا وأفقدت هذه الاغنية ريمون اده صوابه، فذهب يبلغ الرئىس شهاب عنها، فصدرت الاوامر الفورية بإلغائها. انما يمكن القول مع ذلك ان التركيبة الوزارية الرباعية حققت الكثير من النجاحات. الرئىس شهاب بحكم وجوده فترة طويلة في قيادة الجيش كان يعرف جيداً نوعية أو طبيعة الامراض التي تعانيها سواء الطبقة السياسية او الادارة اللبنانية، بمعنى انه كان على دراية بانتشار حال الرشوة بين الموظفين وجرثومة الفساد بين السياسيين. وحتى الآن لا يوجد احد يشكك بمدى النزاهة التي كانت تطبع شخصية هذا الرجل، ولا بالمثاليات التي وسمت سيرته وأفكاره... لذلك كان في مقدم تفكيره منذ الساعة الاولى لتسلمه الرئاسة الاولى ان يحمل المبضع ويجري جراحة تطهير جذرية لأقنومي الفساد في الحياة العامة في لبنان: السياسة والادارة. لكن الرياح لم تجرِ بما اشتهت السفن الشهابية. فمنذ اللحظة الاولى اصطدم صاحب التفكير المثالي بأشواك الواقع اللبناني المر. كانت الصدمة الاولى عندما نسفت ألاعيب السياسيين حكومته الاولى وأجبرتها على الاستقالة قبل مثولها امام مجلس النواب. وجاءت الصدمة الثانية في مطلع اعمال حكومة الاربعة، عندما فكر الرئىس الاصلاحي بأن يقتلع رؤوس الفساد في الادارة دفعة واحدة ضمن اقتراح عرض على مجلس الوزراء يقضي بصرف جميع المديرين العامين من الخدمة من دون استثناء، لكن الفكرة اجهضت بسرعة عندما هدد احد الوزراء الاربعة بالاستقالة في حال صرف مدير عام محسوب عليه. ويظهر ان هاتين الصدمتين اقنعتا الرجل المثالي باستحالة اعمال المبضع في وضع طائفي مهترئ ومتعفن تاريخياً، فهداه تفكيره وواقعية بعض مستشاريه من النخبة التي احاط نفسه بها الى اعتماد الاسلوب الاصلاحي الهادئ والتدريجي والمتسم بالنَفَس الطويل. وترجم هذا الاسلوب بالسير على طريقين تتلاقيان عند هدف تحقيق هذا النوع من الاصلاح. المرحلة الاولى حصلت ضمن الحكومة الرباعية من مجلس النواب على صلاحية اصدار القوانين الاصلاحية بمراسيم اشتراعية. وبعد حصولها على هذه الصلاحية جرت اقامة هيئة عليا للاصلاح الاداري برئاسة قاضٍ كبير: فريد الدحداح، كانت مهمتها درس الوضع الاداري كله واقتراح مشاريع قوانين جديدة لإصلاحه، كانت تجرى احالتها على مجلس الوزراء لدرسها واصدارها بمراسيم اشتراعية. وبالفعل نجحت حكومة الاربعة خلال شهري نيسان ابريل وحزيران يونيو من العام 1959 في اصدار حزمة كبيرة من هذه المراسيم الاصلاحية نظمت بموجبها الادارات العامة والمصالح المستقلة، واستحدثت الادارات الرقابية كمجلس الخدمة المدنية وديوان المحاسبة والمجلس التأديبي وهيئة التفتيش المركزي. كما نظمت هذه المراسيم مختلف الاوضاع المالية والاقتصادية، وفي 26 نيسان 1960 أحالت الحكومة قانوناً جديداً للانتخابات صدّقه المجلس ونشره رئيس الجمهورية في 26 نيسان 1960 رفع بموجبه عدد النواب من 66 الى 99 نائباً واعتمد القضاء كدائرة انتخابية، ونشر هذا القانون في 4/5/1960، وبعدها اصدر الرئيس شهاب مرسوماً بحل مجلس النواب القائم وحدد مواعيد الانتخابات في الفترة الواقعة بين 9 حزيران و3 تموز 1960 وكان الرئيس كرامي قدم استقالته في 14/5/1960 فقبلها رئيس الجمهورية وصدرت في اليوم نفسه مراسيم تأليف حكومة جديدة للاشراف على الانتخابات من غير السياسيين او المرشحين، برئاسة احمد الداعوق 14/5/1960 - 1/8/1960. وبالفعل أثبتت هذه الحكومة جديتها واتسمت اول انتخابات اجراها العهد الشهابي بالحياد الفعلي وفي الوقت نفسه أسفرت عن اكثرية نيابية شهابية، خصوصاً بعد تحوّل الكتائب الى المعسكر الشهابي وضمور المد الشمعوني بتأثير احداث 1958. أما المرحلة الموازية للمراسيم الاصلاحية فتمثلت بمحاولة تحسين الوضع الاجتماعي في لبنان كله، إذ كان الرئيس شهاب يتمتع ببعد اجتماعي في تفكيره، ويؤمن صادقاً بأن الفقر والحرمان المنتشرين في مختلف المناطق اللبنانية هما السبب الاساس للاضطرابات السياسية وحالات النقمة التي تعم اللبنانيين. واقترحت عليه شخصية مميزة من النخب التي أحاط نفسه بها - الأب يوحنا مارون - تكليف عالم اجتماع فرنسي قدير وشهير، وهو في الوقت نفسه رجل دين مسيحي، وضع دراسة شاملة عن المجتمع اللبناني وطرق اصلاحه!؟ واختيار رجل دين مسيحي لهذه المهمة كان احد اغراضه تخفيف النقمة المسيحية على الرئيس شهاب، غير ان الأب لوبريه الذي اختير لهذه المهمة الصعبة اثبت مقدرة نادرة وعالية في تنفيذ مهمته! لقد ترأس الاب لوبريه بعثة "ايرفرد" التي ضمت مجموعة من الخبراء الفرنسيين المعدودين في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، يعاونهم عدد من الخبراء اللبنانيين المميزين في المجالات نفسها. وأجرت هذه البعثة مسحاً اجتماعياً واقتصادياً شاملاً لأوضاع مختلف المناطق اللبنانية استغرق سنوات عدة خرجت بنتيجته بتقرير مثير حول هذه الاوضاع ازاحت فيه الستار عن مدى البؤس والتدهور الاجتماعي والاقتصادي اللذين تعانيهما غالبية اللبنانيين، معلنة تلك الحقيقة المرة وهي ان الثروة في لبنان متجمعة بأيدي ما نسبته 4 في المئة من سكان لبنان؟! وفي الوقت نفسه تضمن هذا التقرير العشرات وربما المئات من المشاريع والاقتراحات الجدية لمعالجة هذه الاوضاع التي يرى الكثير من الخبراء انها لا تزال صالحة للبنان الى هذه الايام؟! وفي هذا المجال لا ينكر احد ان تعميم كهرباء الدولة على مختلف المناطق اللبنانية، والتوسع الكبير في شبكات الطرق وانشاء المدارس الرسمية الجديدة في تلك المناطق تمت كلها في ذلك العهد، الذي شهد عملية وضع الاسس الأولى للضمانين الاجتماعي والصحي الخ. في أجواء اتمام هذه المراحل الأولى من الاصلاحات الشهابية استقبلنا الرئيس شهاب ذلك العام 1961، وكان بيننا صحافيون معارضون للعهد، خصوصاً الزميل الراحل ميشال ابو جودة. لم تكن الغاية اجراء مقابلة صحافية كما تقدم، لكننا شعرنا وبوضوح وكأن الرئيس شهاب "بقّ البحصة". فهو الذي فتح الحديث السياسي ومن دون ان يوجه اليه احدنا اي سؤال. استرسل في الحديث عن نظرته الى المبادئ الاصلاحية عامة وكيفية تطبيقها في لبنان. اشتهر عن الرئيس شهاب اطلاقه تسمية "أكلة الجبنة" Fromagiste على السياسيين اللبنانيين، وهي التسمية نفسها التي كان الجنرال ديغول يعطيها لأكلة الجبنة من الفرنسيين، لو ان نظرة الرئيس اللواء الى أهل السياسة اللبنانيين شديدة السوء. وكان صريحاً في تعداد الكثير من ألوان الفساد المنتشر بين اكثريتهم، انما كان يرى ان اي اصلاح سياسي سريع وجذري متعذر في لبنان لأسباب كثيرة، بينها التاريخي والاجتماعي، وأهمها ترسب الاقطاع العائلي السياسي في بنيان المجتمع اللبناني وسيطرة الامراض الطائفية والمذهبية على عقلية اللبنانيين، والتي تسهل على السياسيين استغلالها لتغطية ارتكاباتهم. لذلك يرى ان المعالجة يمكن ان تتم على المدى الطويل عبر طريقين. الأول: تحقيق حد معقول من العدالة الاجتماعية يمكنه تخفيف الفوارق الطبقية فيؤدي من جهة الى اضعاف نفوذ الاقطاع السياسي، ومن جهة ثانية الى تمتين اللحمة الوطنية، ما سيقلص مع الوقت استعمال هذا الاقطاع السلاح الطائفي! أما الطريق الثاني فهو تحصين الدولة بالمؤسسات الضابطة. فحصر التوظيف في الادارة بمجلس الخدمة المدنية مثلاً عدا عن فوائده في تنقية الادارة من التوظيف العشوائي سيحرم السياسيين من احد مصادر نفوذهم في استغلال مثل هذا التوظيف. أما قوننة منع الوزراء من "تمشية" المعاملات غير القانونية على مسؤولية الوزير كما جرت العادة منذ قيام الاستقلال، فسينزع منهم مصدراً آخر للنفوذ. كذلك فإن ديوان المحاسبة سيؤدي الى الضبط المالي لقرارات مجلس الوزراء. كان واضحاً من مجمل هذا الحديث ان الرئيس شهاب كان يخطط لاصلاح سياسي تدريجي يقوم على رفع يد السياسيين وتقليم أظافرهم الطائفية والعائلية الاقطاعية! وبعد هذه المداخلة انتقل الرئيس شهاب في حديثه الى اعطاء وصف عام لأوضاع الموظفين في لبنان، فرأى ان الرشوة منتشرة بين معظمهم وشاملة لكبارهم وصغارهم. وقدر ما لا يقل عن 60 في المئة منهم أو حتى أكثر يمكن وضعه في خانة المرتشين، وكرر بلهجته الكسروانية الجبلية وصفهم بالحرامية، واستطرد ان مرض الرشوة في الادارة اللبنانية ليس طارئاً وإنما قديم ووليد تربية سيئة نشأ عليها معظم اللبنانيين، غرزت في نفوسهم عقلية ربحية نفعية تحلل قنص المال بكل الوسائل، الحلال فيها والحرام، وضمن ضربه مثلاً على هذه العقلية أورد بين المزاح والجد، ان المرأة اللبنانية بعد ان تتم تعليم ابنها تسعى لتوظيفه، وعندما يجد الوظيفة، الحكومية بخاصة، لا تسأل عن قيمة معاشه، وانما عن مدى ما يدخل من المال البراني، والبراني كلمة لبنانية، القصد منها مال الرشوة. ويستطرد الرئيس شهاب فيرى ان مثل هذا المفهوم هو جزء من تخلف اجتماعي وحضاري لا يزال المجتمع اللبناني بمختلف فئاته وطبقاته يرزح تحته. وأورد قصة تدل الى جانب من هذا التخلف فروى: انه عندما كان لا يزال قائداً للجيش ايقظه مرة من نومه القائد العسكري لمنطقة الجنوب ليذكر له ان الاسرائىليين أبلغوا لجنة الهدنة المشتركة تهديداً بشن هجوم كبير على حدود لبنان، لأن أهالي احدى القرى الحدودية استقبلوا احد ابناء قريتهم الخارج لتوه من السجن بتظاهرات اطلقوا خلالها مئات الاعيرة النارية والمتفجرات فظنت قوات الحدود الاسرائىلية ان هناك إعداداً للهجوم عليها وتعليق الرئيس شهاب على هذه الحادثة مفاده ان الخارجين من السجن، خصوصاً اللصوص منهم في الدول المتقدمة، لا يمكن قراهم ان تقبل عودتهم اليها فيهجرونها الى قرى اخرى. الرئيس شهاب يخلص بالنسبة الى الإصلاح الاداري الى القول: ان استعمال مبضع البتر بين الموظفين الفاسدين سيؤدي حتماً الى رمي آلاف من العائلات في الشارع، ما سيحدث ازمة اجتماعية خطيرة تحاشى التسبب بها ولا يتحملها ضميره! لذلك يرى ايضاً ان الطريق السليم لهذا الاصلاح هو الطريق التدريجي المفترض ان يتم عبر المؤسسات الضابطة، خصوصاً مجلس الخدمة المدنية، حيث يتأمن مع الوقت ان يحل مكان جيل الموظفين الفاسدين والمترهلين جيل جديد نزيه وكفي من حملة الشهادات العالية! إجمالي هذه الآراء التي سمعناها من الرئيس شهاب كانت دلالاتها الواضحة تشير الى قراءة اعتماد الاصلاح التدريجي سواء بالنسبة الى الادارة أو بالنسبة الى القطاع السياسي! انما على هامش هذه النظرية الشهابية للاصلاح تتناقل الاوساط السياسية وحتى الآن رواية حقيقية مفادها ان السياسي الواقعي زعيم عكار الراحل سليمان العلي زار الرئيس شهاب قبل انتهاء ولايته بفترة قليلة. وبعد ان استمع منه الى تفاصيل الروزنامة الكاملة للاصلاحات التي نفذها أو وضع الخطط المستقبلية لها، ضحك ملياً وقال: "تذكر هذه النبوءة يا فخامة الرئيس، انه بمجرد ان تغادر باب القصر الجمهوري وتبتعد عن سلطة القرار، سيبدأ السياسيون بشحذ سكاكينهم لاجهاض المؤسسات التي اقمتها وجعلها، مع الزمن، عديمة الفاعلية". ونظرة موضوعية الى مجريات الاحداث التي اعقبت العهد الشهابي، تثبت ان الكثير من نبوءة العلي قد صح فعلاً. فأواخر الستينات وخلال السبعينات من القرن الماضي جرى تعديل الكثير من المراسيم الاصلاحية الشهابية، ومعظم تلك التعديلات حققت اعادة هيمنة رجال السياسة على الادارة، وضمنها مثلاً عادت للوزير صلاحية توقيع المراسيم غير القانونية على مسؤوليته! اما بالنسبة الى حال الفاعلية للمؤسسات الضابطة الاهم: ديوان المحاسبة، التفتيش المركزي، مجلس الخدمة المدنية، فتضاءلت فاعليتها بعد انتهاء العهد نصف الشهابي، اي عهد الرئىس شارل حلو لتصاب بالشلل التام خلال حرب لبنان ولتتحول بعد اتفاق الطائف وإحلال حكومة المقاولات والخصخصة، على لبنان الجريح، الى شاهد زور على كل عجائب المخالفات والارتكابات التي لم يشهد هذا اللبنان مثيلاً لها في كل تاريخه قبل الاستقلال وبعده؟! هذه الارتكابات التي جرت تحت أبصار الأجهزة الضابطة، ورتبت على البلد الفقير المنهك بالحروب، لبنان، ديوناً فلكية جاوزت حتى تاريخه الثلاثين بليون دولار، تصل خدمتها السنوية الى ثلاثة بلايين و500 مليون دولار تساوي كامل الدخل السنوي لخزانة الدولة! صحيح ان ديوان المحاسبة تجرأ احياناً وقدم تقارير تحذيرية فضح فيها بعض التجاوزات، لكنها كانت تقابل كلها بالآذان الصماء! فهل تعني هذه الحال التي انحدر إليها الوطن الصغير انه كان من خطأ الرئيس شهاب انه لم يعش حتى يرى هذا الانهيار للبنيان الإصلاحي الذي وضع اساساته، وأنه من سوء حظ نده الرئيس اميل لحود ان يعاني كل هذه المعاناة من عبء هذه التركة الثقيلة من دون ان تمكنه الظروف الملبدة بالغيوم الإقليمية، من ان يجسد حلمه الإصلاحي الذي تجسد في خطاب القسم الرئاسي الذي كان يمكنه لو تحقق ان يضيء ولو جانباً من النفق المظلم الذي أدخل فيه حكام المقاولات والعمولات الوطن الصغير البائس... ولا شك في ان هذه المؤسسات التي مضى على إنشائها اكثر من اربعين عاماً تحتاج فعلاً الى تحديث في قوانينها، انما ان يتم هذا التحديث بعقلية رجال دولة وعلم وليس بعقلية ارباب المقاولات والخصخصة الذين وصل الجنوح بهم الى حد العمل لخصخصة الدولة بداية بتخصيص الإدارة كما يشي مشروع القانون الساعي الى قصر التوظيف على التعاقد لمهل زمنية محددة، هذا المشروع العجيب الغريب الذي لا يوجد مثله في اي دولة على وجه الأرض. ولا ريب أيضاً ان من حظ الرئيس شهاب صاحب البعد الاجتماعي في تفكيره ومشاريعه الإصلاحية انه رحل قبل ان يسمع عن مثل هذه البدعة. * كاتب وصحافي لبناني، والنص فصل من كتابه "سنوات الحجر" وهو الجزء الثاني من كتابه "ذكريات من الصحافة والسياسة".