إذا كانت تأكيدات واشنطن عزمها اطاحة النظام العراقي حققت شيئاً خلال الشهور الأخيرة، فإنها فرضت تراجعاً كبيراً في وتيرة "التطبيع" الذي شهدته علاقات الدول العربية مع بغداد، والذي تسارع في أعقاب الانتفاضة الفلسطينية الثانية. إذ ان فشل التسوية السلمية، وفشل الإدارة الأميركية في ضبط حليفتها الاستراتيجية الأولى في المنطقة، عجّل في عملية إعادة تأهيل النظام العراقي، من دون حدوث أي تحول ملموس في السياسات الاقليمية لبغداد. قد تكون قمة بيروت مثلت ذروة الاستعداد العربي الرسمي لإعادة تأهيل العراق، رداً على السياسات الاميركية إزاء المسألة الفلسطينية، وتماشياً مع الرأي العام العربي. وليس سراً ان هذا التقارب مع العراق، من دون اعتبار للحسابات الأميركية الاقليمية، أثار حفيظة واشنطن، ان لم يكن غضبها، في ضوء تفاقم مخاوفها من تراجع نفوذها في منطقة تعتبرها الأكثر حيوية بالنسبة لمصالحها الاستراتيجية. وقد يكون الموقف العربي، الذي بدا في حينه، أكثر استعداداً للتعامل مع بغداد، زاد من اندفاع واشنطن الى تغيير النظام العراقي، الذي تمكن من كسر العزلة السياسية المفروضة عليه، من دون تقديم تنازلات في مواقفه الاقليمية المناوئة للمصالح الاميركية. وبما أنه لا وجود لأي تكافؤ في ميزان النفوذ السياسي في واشنطن بين اسرائيل والعرب، كان قرار الادارة الاميركية يصب في اتجاه اعطاء الضوء الأخضر لخطط اسرائيل فرض تسوية مرحلية على الفلسطينيين، في مقابل التزامات اميركية مؤجلة التنفيذ، بإقامة دولة فلسطينية بعد ثلاث سنوات، أي بعد "معالجة" الملف العراقي، والفوز المفترض بدورة رئاسية جمهورية ثانية. ووفقاً لهذا المنطق، فإن انهيار التسوية السلمية على يد شارون، وخروج صدام حسين من الصندوق الذي وضعته فيه أميركا في العام 1991، أمران تحالفا في اتجاه حسم مسألة استخدام القوة لتغيير النظام الحاكم في بغداد. ولا شك ان بغداد ورطت نفسها ايضاً، بسعيها، من خلال استخدام سلاح النفط، الى توسيع دائرة نفوذها الاقليمي والدولي، بهدف تحقيق ما كانت فشلت في تحقيقه بغزوها الكويت. ومن المفارقات ان العراق، الذي دمرته الحروب منذ العام 1980، يعد اليوم من أكبر الدول المانحة للمساعدات الاقتصادية في المنطقة، بدءاً بتزويد الأردن نصف احتياجاته من النفط مجاناً، مروراً بتهريب كميات كبيرة من النفط عبر تركيا وايران بأسعار متدنية، وسلسلة اتفاقات تجارة حرة مع دول عربية عدة، وصولاً الى فتح أنبوب النفط الواصل الى سورية. وبحسب بعض التقديرات تجاوزت قيمة "المساعدات" العراقية لدول المنطقة المساعدات الأميركية والأوروبية معاً باستثناء اسرائيل، وهو ما يترتب عليه بالضرورة، ضرب النفوذ الأميركي الاقليمي. من أهم دوافع اميركا لتغيير النظام العراقي استمرار هذا النظام، بذهنيته المعروفة، في تجاهل معنى وجود 63 في المئة من مخزون النفط العالمي في منطقة بدأت واشنطن تشعر بأنها قد تضطر الى تقاسم النفوذ فيها مع نظام معادٍ لمصالحها. وليس مهماً هنا أن يكون هذا النظام ارهابياً أو ديموقراطياً، أو انه يملك أسلحة دمار شامل، أو أنه يلتزم أصول التعامل الدولي وفق المعايير الاسكندنافية! المشكلة هي في نظام لا يريد أن يفهم ان الاتحاد السوفياتي السابق، الذي كان يملك 11 ألف رأس نووي، فضل الاستسلام أو التراجع، على أن يخوض حرباً خاسرة مع دولة عظمى ترفض، ما استطاعت الى ذلك سبيلا، ان تتقاسم النفوذ في أي منطقة حيوية في العالم، مع أي دولة كانت.