الضغوط السياسية والاقتصادية التي ترزأ تحتها دول مثقلة بالديون، مثل الاردن ولبنان، تتفاقم يوماً بعد يوم، يزيد وطأتها استمرار الحرب الاسرائيلية المباشرة على الفلسطينيين، والحرب غير المباشرة على الأردن ولبنان، وبقية دول المنطقة بدرجة ثانية. إذ ليس سراً ان هذين البلدين من اكثر دول الاقليم تأثراً بتداعيات الوضع الفلسطيني - الاسرائيلي، واكثرهما عرضة للتحرش الاسرائيلي المباشر وغير المباشر. وفي ضوء الانهيار المتسارع لما كان يسمى "معسكر" السلام في اسرائيل وانكفاء حلفائه العرب من مؤيدي السلام كخيار استراتيجي أو تراجعهم، تبدو معاهدتا السلام الاردنية والمصرية مع اسرائيل وقد فرغتا من مضمونهما الاستراتيجي، باستثناء ما ارتبط بهما من مساعدات اميركية اقتصادية وعسكرية لهذين البلدين الفقيرين. اي ان تلك المساعدات، ربما باتت وفي شكل متزايد، الدافع الوحيد لتمسكهما، ولو ظاهرياً، بخيار التسوية السلمية، ولو من جانب واحد! إذ ان اصرار الجانب الاسرائيلي على تخريب ما حققه المجتمع الدولي منذ انطلاق مؤتمر مدريد، جرد اتفاقات السلام الاقليمية من كثير من اغراءاتها الملموسة، باستثناء المساعدات الأميركية المعروفة، وبعض المساعدات الأوروبية. لكن الوضع الاقليمي اليوم يختلف كثيراً عما كان عليه قبل انطلاق قطار التسوية من مدريد. إذ ان فشل الولاياتالمتحدة في الزام الحليف الاسرائيلي بالمسار السلمي وفق الشروط المتوافق عليها اقليمياً، جعل الالتزام العربي المقابل ضرباً من العبث السياسي الذي يرتب أكلافاً سياسية داخلية. كما ان معادلة المساعدات الأميركية في مقابل الالتزام السلمي دخل عليها في السنوات الأخيرة عامل جديد، ربما لم يكن في حسبان واشنطن: العراق. فهذا البلد العربي المحاصر منذ عشر سنين، الذي دمرته الحرب، يقدم اليوم مساعدات اقتصادية للأردن ولبنان وسورية ومصر، بدأت تنافس بجدية المساعدات الأميركية في تأثيرها على صنع القرار في عمان وبيروت ودمشق والقاهرة. وتظهر الأرقام الرسمية ان حجم المساعدات العراقية للأردن، بما فيها ما قيمته 400 مليون دولار سنوياً من النفط، يزيد على المساعدات الاميركية السنوية للمملكة. وليس سراً أن المسؤولين العراقيين ابلغوا الحكومة الاردنية استعدادهم لتعويض أي خسائر تترتب على الأردن في حال تنصله من التزاماته تجاه اسرائيل والولاياتالمتحدة. وإذا صحت التقديرات لكميات النفط التي يضخها العراق عبر انبوب النفط الممتد الى سورية، فإن قيمة المساعدات العراقية لسورية ولبنان تفوق المساعدات الأميركية لمصر! وإذا نفذ العراق وعوده بتقديم بليون يورو للفلسطينيين، فضلاً عن منحه مئة الف دولار لعائلة كل شهيد، فإنه يكون من اكبر الدول المانحة للمساعدات في المنطقة، من دون احتساب عمليات تهريب النفط العراقي الى ايران وتركيا بأسعار متدنية جداً، واتفاقات التجارة الحرة التي وقعتها بغداد مع عدد من دول المنطقة. لا حاجة الى التساؤل عما يدفع العراق الى منافسة أميركا على النفوذ في المنطقة، على حساب زيادة معاناة المواطن العراقي. فالمساعدات العراقية مثل المساعدات الاميركية ليست بريئة تماماً، وليس بين من يتلقونها من سيثير الجانب الاخلاقي ليعترض عليها. ولعل الانفتاح العربي المتزايد على بغداد، والابتعاد السياسي التدريجي عن واشنطن خير دليل. وواضح ان السياسات الاسرائيلية، وعجز واشنطن ازاءها، وجهت ضربة قاسية الى النفوذ الأميركي في المنطقة، وليس فشل مشروع العقوبات الأميركي - البريطاني سوى مثال حي. في المقابل، يسعى العراق، مستفيداً من تلك السياسات الحمقاء، الى ملء الفراغ بالترويج لنظرية "العجز الأميركي وتواطؤه مع الصهيونية"، فيما يعمل بجدية لاستبدال المساعدات الاقتصادية الاميركية. ولعلها "ام المهازل" الأميركية ان يتمكن بلد في وضع العراق من ان يحقق ما حققه في السنوات الأخيرة، على حساب النفوذ الأميركي المتآكل في المنطقة.