بغض النظر عن الأرقام "التفاؤلية" التي انبرى لتقديمها، ولا يزال، وزراء الاقتصاد والمال والسياحة والمواصلات المغاربيين، والتي تتحدث في مجملها عن صمود اقتصادات بلدانهم واستيعاب آثار 11 أيلول سبتمبر 2001، إلا أن الواقع يبقى مغايراً لهذه "الطروحات - التمنيات". ففي حين يركز المسؤولون على بعض مؤشرات الاقتصاد الكلي التي سجلت تحسناً نسبياً، إلا أن الانعكاسات على غالبية القطاعات المرتبطة بالمبادلات التجارية مع أوروبا والولايات المتحدة وأسواقها، التي تشهد مرحلة من الانكماش الملحوظ، كانت سلبية من الناحيتين المادية والنفسية. إضافة إلى ذلك، كشفت هذه الصدمة ضعف بنيات بعض هذه الاقتصادات المغاربية وهشاشة بعضها الآخر لناحية عدم قدرتها حتى الساعة، على رغم التصريحات الفضفاضة لأصحاب القرار فيها التي تجزم الاندماج في نظام العولمة واقتصاد السوق وفقاً لما تتطلبه "طبيعة هذه المرحلة"، على اثبات هذا التحول بالملموس. ومع أن انعكاسات 11 أيلول تختلف من بلد مغاربي لآخر، كون اقتصاد البعض انتاجياً، كما هي الحال بالنسبة للمغرب وتونس، وريعياً، ما ينطبق على الجزائر وليبيا، إلا أن جملة من القطاعات الأساسية تأثرت جدياً، وبالتالي، فإنها لن تتمكن قبل مرور سنوات عدة، برأي المحللين الماليين المختصين بمنطقة شمال افريقيا، من تصويب اداءاتها. ويعود ذلك في جانب منه إلى تراجع حجم استثمارات القطاع الخاص نتيجة تخوف شركائه الأجانب من تطور الأوضاع باتجاه سلبي، في حال حدوث هزات جديدة في العالم العربي عموماً أو في منطقة المغرب خصوصاً، ويتعلق الأمر بمجالات السياحة والنقل الجوي والتأمينات والقطاع المصرفي - المالي والصناعات التحويلية التي انتعشت في الأعوام الأخيرة بشكل ملحوظ، وأسواق العقارات. ومن مظاهر التراجع العام أيضاً، ضعف القوة الشرائية للمواطن المغاربي بفعل ارتفاع معدلات التضخم، ناهيك عن البطالة التي زاد زحفها بفعل التباطؤ الاقتصادي العام. الحال المغربية فالمملكة المغربية، التي خطت منذ بداية عقد التسعينات، الخطوات الأكبر في مجال تحرير اقتصادها غير التابع كلياً أو جزئياً لانتاج الهيدروكربورات على غرار جاريها الجزائري والليبي، كانت الأكثر تأثراً بتداعيات 11 أيلول على رغم إعلان وزير الاقتصاد والمال والسياحة والتخصيص، فتح الله ولعلو، الأسبوع الماضي، بأن معدل النمو سيحافظ على وتيرة معقولة بنسبة 6.4 في المئة هذه السنة أي أقل ب9.1 في المئة عنه في 2001، وبأنه من المتوقع أن يتحسن كي يلامس عتبة ال6 في المئة سنة 2003. لكن هذا التشخيص الذي دعمه بالزيادة المهمة لصادرات المملكة من الفوسفات التي تشكل مع تحويلات المغاربة العاملين في الخارج، والسياحة أهم مصادر الدخل في المملكة، لم يلجم حال الخوف السائدة في أوساط أرباب العمل من صناعيين ومصرفيين. واعتبر هؤلاء التركيز على المؤشرات الايجابية من دون التطرق للشق السلبي منها، بمثابة عملية التحذير عشية الانتخابات التشريعية المقررة في 29 أيلول الجاري. ولا تنفك هذه الأوساط عن الاشارة في جميع ملتقياتها وندواتها إلى تأثيرات 11 أيلول المباشرة على الاقتصاد المغربي. وفي حين تؤكد وزارة السياحة بأن تدفق السياح الأجانب تراجع بنسبة 7.12 في المئة حتى نهاية حزيران يونيو 2002، مقابل زيادة قدرها 6.4 في المئة للفترة نفسها من العام الذي سبق، يرى المراقبون الاقتصاديون بأن معدل هذا التراجع يزيد قليلاً على ال20 في المئة، على رغم حملات الدعاية والمبادرات الميدانية التي اضطلع بها المكتب الوطني المغربي للسياحة. ويستند هؤلاء على معطيات تثبت بأن عدد السياح الأوروبيين تراجع بنسبة 7.10 في المئة والأميركيين ب3.40 في المئة. وفي السياق نفسه، لا يبدو بأن وضع شركة "الخطوط الملكية المغربية" أفضل حالاً. فالخسائر التي سجلتها هذه الأخيرة منذ أيلول 2001، جاءت لتراكم مشكلات هذه المؤسسة التي لم تنفع سياسات التقشف الإداري وخفض عدد الرحلات وتجميد شراء عدد من الطائرات الجديدة التي تم الاتفاق عليها مع شركتي "بوينغ" و"ايرباص" العام الماضي، من تخفيف الأضرار الحاصلة. لكن المؤشر الأهم تمثل في عودة السلطات المختصة عن عملية تخصيص هذه الشركة الوطنية بعد الإعلان رسمياً عنها وكشف مردودها المالي المتوقع. ويأتي هذا التراجع بعدما لمست انكفاء من قبل الأطراف الأجنبية التي سبق وأبدت اهتمامها الكبير بشراء حصص فيها. ونيسحب هذا الوضع على قطاعات الصناعات التحويلية الالكترونية والكهربائية والميكانيكية وغيرها، التي تضاعف عدد شركاتها في المغرب بشكل ملفت خلال السنوات الخمس الأخيرة، نتيجة لانخفاض الطلب الخارجي عليها بفعل التباطؤ الحاصل في أوروبا، التي تستورد نحواً من 70 في المئة من انتاج هذا القطاع، ويتخوف المسؤولون المغاربة من عودة الشركاء الأجانب عن تنفيذ التزاماتهم لناحية زيادة الاستثمار لتطوير قدرات الشركات المغاربية العاملة. ومن المؤشرات السلبية الأخرى، التدني الملحوظ لحجم الاستثمارات الخارجية المباشرة في الشهور الستة الأولى من السنة، التي وصلت إلى 2.2 بليون درهم الدولار = 11 درهماً تقريباً، مقابل 26 بليون درهم العام الماضي، الأمر الذي فسرته الحكومة بأنه ناجم عن التريث في تخصيص عدد من الشركات خلال هذه الفترة. أمام هذا التراجع، بادر الملك محمد السادس شخصياً خلال جولاته على عدد من الدول، في طليعتها المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة والولايات المتحدة والصين والهند، باقناع قادتها على تشجيع الشركات المحلية الكبرى في كل منها على المجيء والاستثمار في المغرب. من ناحيته، يبدي القطاع المصرفي المغربي حذراً شديداً. ويبدو ذلك واضحاً من خلال عمليات التقشف والسياسات الاحترازية المطبقة حيال عمليات الإقراض أو المشاركة في تمويل المشاريع العقارية والصناعية الجديدة التي لا تملك الضمانات الكافية المطلوبة. فالنتائج نصف السنوية التي تأخرت المصارف، على غير عادتها، في إعلانها، لا تبدو، حسب رأي الخبراء، زاهرة، بالمقارنة مع العام الماضي. أما في ما يختص بقطاع التأمين، الذي طالما حرك السوق المالية، فإنه يشكو هو الآخر من تداعيات 11 أيلول الذي زاد من حدتها الهبوط المستمر لسوق الدار البيضاء للأوراق المالية. وتفيد المعلومات بأن تراجع اداء هذا القطاع كان كبيراً بحيث بلغت نسبته 5.23 في المئة منذ نحو عشرة شهور. حتى سوق الإعلان، التي تعتبر مؤشراً على نشاط وحيوية كل سوق ومدى اهتمام الشركات الأجنبية بها، انخفضت بمعدل 55 في المئة في المغرب منذ الهجمات على نيويورك وواشنطن، مما بات يهدد استمرارية عدد من المطبوعات المحلية، خصوصاً الصادرة منها باللغة الفرنسية والتي تنبت مثل الفطر منذ ثلاث سنوات. ومن النتائج السلبية الأخرى، انخفاض القوة الشرائية للمغاربة بعد الزيادات التي طرأت على أسعار عدد كبير من المواد الاستهلاكية المستوردة وغيرها، الناجم عن زيادة رسوم شركات التأمين والفوائد المعتمدة من قبل المصارف التي ترافقت مع التضييق في مجال الاقتراض. ويحاول العاهل المغربي وفريق عمله من التكنوقراط، الالتفاف على آثار 11 أيلول السلبية على الاقتصاد المغربي، من خلال العمل على زيادة الاستثمارات الداخلية في مشاريع من شأنها جذب رؤوس الأموال الخارجية على غرار اطلاق مشروع المنطقة الحرة في محيط ميناء طنجة بليون دولار، وبناء عشرات الآلاف من المساكن الشعبية وخلق مشاريع انتاجية جديدة تخلق فرص عمل وتزيد من القيمة المضافة. وعلى رغم اختلاف طبيعة الاقتصاد الجزائري الذي يعتبر ريعياً، والذي من المفترض ألا يتأثر بأحداث 11 أيلول بالنسبة نفسها التي أصابت المغرب، إلا أن عملية الانفتاح التي كان بدأها النظام مند عامين وفتح عبرها في العام الماضي عدداًَ من القطاعات وتخصيص شركات عائدة للقطاع العام، تأثرت بشكل مباشر. ففي حين بقي اهتمام المستثمرين الكبار منصباً على دخول قطاع الهيدروكربورات من خلال تخصيص جزئي لشركة "سوناطراك"، عادوا وأبطأوا الخطى بالنسبة للمجالات الأخرى مثل السياحة والبنيات التحتية والقطاع الزراعي والصناعة. هذا القطاع الذي يشكل عماد الاقتصاد الجزائري نطراً لحجم المبالغ التي استثمرت فيه طوال أكثر من ثلاثة عقود ضمن نطاق سياسة التسيير الذاتي. وتمثلت الانعكاسات الأكثر سلبية بتردد المصارف الأجنبية، خصوصاً بعد 11 أيلول، في دخول غمار السوق المالية الجزائرية. ولم تنجح بورصة الجزائر حتى الآن باستقطاب أكثر من خمس شركات. بينما بقي وجود المصارف الأجنبية ضئيلاً في الساحة، محصوراً بمكاتب تمثيل وفروع مهمتها اتمام الصفقات التجارية مع الدولة ومؤسساتها المختلفة، وتمويل جزئي لعمليات استيراد وتصدير تقوم بها الشركات المحلية، ذلك من دون المساهمة بتمويل مشاريع انتاجية ذات مستوى. وتقاطعت أبعاد أحداث نيويورك وواشنطن مع تخوف المصارف الأجنبية، وفي طليعتها الأميركية والفرنسية، مع ضبابية السوق المالية الجزائرية، وغياب الشفافية على صعيد العمليات المصرفية، التي لم تتمكن الحكومة، على رغم الجهود المبذولة، فرضها على الشركات المحلية لأسباب تتعلق بصراع النفوذ القائم على مستوى القمة في السلطة. ويضيف أحد كبار المصرفيين الأوروبيين بأن التخوف من تزايد نشاطات المجموعات الإرهابية في الجزائر بعد 11 أيلول لعب دوراً في تريث المستثمرين الأجانب بالقدوم لهذا البلد والاكتفاء بالعمليات المحدودة والضرورية التي لا يضعون فيها "رقبتهم تحت المقصلة"، حسب تعبيره. بينما يرى مسؤول فرنسي، مهتم بالملف الاقتصادي الجزائري، بأن السلطات المعنية لم تقم بما فيه الكفاية بدورها للالتفاف على انعكاسات أيلول، كون الاهتمام كان ولا يزال في قطاع الهيدروكربورات الذي يضخ وحده ما يقارب ال20 بليون دولار سنوياً للخزينة، وبالتالي، ليست هنالك مصلحة للشركات النفطية الأجنبية في الابتعاد عنه، لا أمس ولا اليوم ولا غداً، حتى لو حدثت عمليات ارهابية داخل البلاد. لكن الهجمات التي حصلت كان لها وجه سلبي إضافي بحيث جمدت عدداً كبيرا من المشاريع وزادت في حدة البطالة التي تناهز رسمياً ال23 في المئة وفعلياً ال28 في المئة. اقتصادي لبناني.