كيف تتبدى مدينة تعز ومدينة القاهرة في رواية الكاتب اليمني الراحل زيد مطيع دماج، وهو خص كلاً منهما بفصل في كتابه الاخير "الانبهار والدهشة"؟ بل كيف تتجلى المدينة العربية في مرآة الرواية؟ الناقد العراقي حاتم الصكر يقرأ هنا الرواية على ضوء المدينة والعكس ايضاً. في قراءتنا آخر اصدارات الكاتب الراحل زيد مطيع دماج "الانبهار والدهشة" - دار رياض الريس - لا بد لنا من وقفة اولى عند عنوان الكتاب الذي يبدو للوهلة الاولى عادياً ومكرراً، لكن الفراغ من قراءة فصلي الكتاب، يقودنا الى مبرر قوي لهذه التسمية. لكأن زيد دماج اراد ان يكون "الانبهار" عنواناً للفصل الاول الخاص بتذكراته طفلاً في مدينة "تعز" اليمنية التي قضى فيها جزءاً من طفولته وتعليمه، وان تكون "الدهشة" عنواناً لثاني الفصلين عن زيارته الاولى للقاهرة ومدن مصرية اخرى بني سويف - الاسكندرية - السويس حين سافر لغرض الدراسة. وبين قوسي الانبهار والدهشة بالمكان ومفرداته، يفصّل زيد دماج كثيراً من احوال اليمن في عهد الإمامة الظلامي المظلم اعوام 1950-1960 وحتى قيام الجمهورية بعد ثورة 26 أيلول سبتمبر 1962. لكن اولى اشكاليات الكتاب هي تجنيسه. فالكتاب ليس مذكرات خالصة ولا سيرة ذاتية تستمد بالاسترجاع والتذكر مادتها، كما انه ليس تأملاً في المكان من حيث جمالياته ورسومه ومفرداته. إن الصفحات الثمانين التي سجل فيها دماج رؤاه الطفولية وتعرفه الاول على العالم تجمع الكثير من سيرة المكان والذات الكاتبة والمذكرات، الى جانب الرصد التاريخي او انعكاس الزمن على فضاء المكان، وكذلك الاحداث التي تعاقبت فيه، لكن القارئ يحس وهو يفرغ من القراءة، ان ما وصله ليس إلا كِسَراً وشذرات كان بإمكان الكاتب الراحل - وهو القاص والروائي المعروف، صاحب الرهينة - ان يتوغل فيها ويزيد من مساحتها بالأسلوب نفسه، حتى نعود معه الى مراحل من تشكل وعيه وتعرفه على العالم والكتب والآخر، لا ان نرى معه - وعبر كتابه الصغير هذا - مشهد مدينتي تعز والقاهرة فقط. اختار دماج ان يدخل الى خزائن طفولته وصباه عبر ثلاثة مقتربات: أولها: المكان الذي بهره وأدهشه كانطباع اولي للقائه بالأشياء التي يمثلها المكان كمفردات... يستلها من زواياه وحواشيه وهوامشه. وثانيها: السرد الذي يستعيد الدهشة والانبهار من خلال آلياته، مقترباً من السيرة، باعتبارها قصاً بضمير المتكلم، وعرضاً لشواهد وموضوعات تتسلط عليها الذات، وتعيد زمنها الماضي في زمن لاحق ماثل هو زمن الكتابة الآني. لكن السرد لا يحتل مساحة التذكر، بل هو الوسيلة الممكنة للتوصيل. وثالثها: تصوير اللحظة الزمانية التي كان قدر دماج ان يعيشها، ويرصد ما تسببت به الانظمة الجائرة الجاهلة من تدمير للوطن والانسان. لكن الكاتب لا يعرض ذلك كله كموضوع خارجي مستقل، بل كمادة تتسلط عليها الذات وتعرضها من وجهة نظر ساردها، وعبر لوحات ادبية مكثفة ومتميزة، مرسومة بالكلمات، كما يلاحظ الشاعر عبدالعزيز المقالح وهو يقدم الكتاب الى القراء. فهل كانت مادة الكتاب اذاً سيرة للمكان أم للكاتب؟ احسب ان الاجابة على هذا السؤال تقتضي قراءة دقيقة لجزءيه او ما سماه الكاتب: "كتاب تعز" و"كتاب القاهرة". يأتي زيد دماج الى "تعز" المدينة التي اتخذها الإمام أحمد حميد الدين عاصمة لليمن طوال فترة حكمه، قادماً - اي زيد - من قريته في الضواحي الريفية، فيقول عن لقائه الاول بالمدينة: "ولأنني كنت صبياً قادماً من الريف دخل الى فضاء اوسع وأكبر من قريته، كان لا بد ان ادهش بانبهار لأشياء لم تكن تخطر على بالي...". انه الآن في "تعز" التي يصفها بأنها "مدينة اسطورية عششت كحمامة وديعة في خيالي منذ الطفولة والصبا، تبيض فيه روايات وقصصاً لا تنضب كما ولسوف يجد القارئ فعلاً الكثير من المشاهد التي رصدها زيد صغيراً وقد تحولت الى وقائع قصصية، لعل اهمها زيارته قلعة "القاهرة" المشرفة على مدينة تعز من الشمال، وقد تحولت الى سجن رهيب للرهائن، وهم صبيان يُسجنون بدلاً من اهلهم او ضماناً لعدم خروج الاهل على سلطة الإمام! ويلفت نظر زيد منعة هذه القلعة واستحالة الهروب منها او القفز عبر سورها العصي الذي تزيده صخور الجبل صلادة وقسوة، فلا يظل للرهائن الصغار سوى النظر عبر السور الى قراهم البعيدة وبيوتهم التي يفتقدونها كل مساء وهم جالسون "يمرجحون أقدامهم" على هاوية الفراغ الذي يتشكل بين القلعة والمدينة، رمزاً للحرية المفتقدة. وسنرى مشهداً مماثلاً في "الرهينة" حيث يمرجح الدويدار الجديد رجليه على سطح القلعة ويرنو الى قريته البعيدة بحزن وألم. ويأخذنا زيد الى سور مدينة تعز ويدخل من خلاله الى تفاصيل المدينة لا سيما جوامعها وأضرحتها ذات القباب المتنوعة: صغيرة وعملاقة مزخرفة بالأشكال والكتابات والألوان الجذابة. نطوف مع زيد في مدرسة وجامعة الاشرفية وجامع المظفر ببركته الفسيحة التي يتذكر زيد سباحته في مائها المتحدر من جبل صبر، ويسترجع جامع المعتبية الخالي من المآذن والمكتفي بقبتين فقط تشبهان النهدين. ويتساءل زيد عن سر ذلك: اين المآذن؟ ولماذا هذا الشكل المميز للقباب؟ وسيعلم لاحقاً ان اسم هذا المسجد المعتبية منسوب لزوجة احد ملوك تعز واسمها المعتب وقد امرت ببنائه على هذا الشكل الانثوي رمزاً للمرأة كما يقول زيد ولجسمها الجاذب للملوك. ومن اعالي قلعة القاهرة ومآذن تعز ينزل بنا زيد الى ارض المدينة وناسها: بائعة البطاطا المقلية: الشابة الجميلة التي يقصدها من دون البائعات الاخريات ليتجلى له جمال وجهها وتقاطيعها وثيابها المميزة. ونتعرف معه على مشاهداته الاولى ببراءة الطفل ودهشة القروي وانبهاره: صندوق الطرب الجرامفون الذي يفزع من صوته ويرتمي في حضن والده عندما سمعه للمرة الاولى، ومفاتيح الكهرباء التي يخاف ان يلمسها، وألعاب الاطفال التي يتسلى بها ابناء المدن، والدراجة، وآلة التصوير... ولكن الوقفة الاطول ستكون مع شخصيات المدينة التي ينتشلها زيد من هامشيتها لتتصدر استرجاعات ذاكرته، فهو يتحدث عن شاحنة نقل الركاب الوحيدة في المدينة او "موتر الرصابي" كما يسميه الناس، وكان يعد "في زمانه اعجوبة" ويظل الصبي المساعد للسائق اسبوعاً كاملاً ينادي في شوارع تعز داعياً الركاب كي يكتمل عددهم للسفر الى عدن. اما اجمل اللقطات المعبرة عن الانبهار الطفولي فهي تذكرات زيد عن المقهى ودخوله اليه للمرة الاولى، وشربه الكولا الذي شاع بأنه شراب مسكر! ورؤية الثلاجة التي تفرز حبات البَرد! كانت تلك الليلة التي عاد فيها زيد وصديقه من المقهى ليلة نادرة، فقد سهر زملاء المدرسة حتى الصباح وخرجوا من اكياس نومهم ليستمعوا الى حكاية المقهى العجيبة وأثر الكولا في النفوس! ونسترجع مع زيد شخصيات المكان ايضاً. لقد ارتسمت في الذاكرة اسماء ذات دلالات: ابن محمود الصبي الاعجوبة المقرب من الإمام أحمد والذي خلع عليه رتبة عسكرية كبيرة وصار ياوره الخاص بعد ان كان يلاعبه ويتسلى معه بألعاب الاطفال ويهتم به اكثر من ابنائه. ونسترجع مع زيد صورة لشخصية اخرى هو علوس مضحك الأمير السيف أحمد ولي العهد الذي اصطحبه معه من صنعاء الى تعز وكان ينادمه ويضحكه بنكاته وحركاته... لكنه ينتهي نهاية مأسوية حيث ينزلق الحبل من يديه ويموت في قاع البئر التي سميت باسمه، نتيجة معاتبة وتندر السيف احمد وحاشيته وانزالهم اياه بحبل الى قاع البئر ليلامس قدميه ثم يسحبونه حتى انتهى به الامر الى الانزلاق في البئر والموت غرقاً. هناك ايضاً المجنون معاوية الذي لا يمل تكرار لازمة واحدة هي جبل داكي على جبل ويرددها في وجه الإمام أحمد تحدياً. وهناك الوشاح سيّاف الإمام الذي اعدم عشرات الثوار والاحرار وهو يقوم بالرقص حول جثثهم متلذذاً بوحشية حتى ان صورته تظل في مخيلة الصغار وهم ينامون... ثم نرى نهايته بالطريقة التي كان يقتل بها الاحرار حيث يعاقب بالموت لقتله جندياً. وينتهي "كتاب تعز" باختفاء شخصية اخرى هو "الساحر علي خالد" الذي كان يوهم الناس بأنه يحول المعادن والحلي والاشياء الى افاع او ذهب. والد زيد هو الوحيد الذي اصر على ان العملة التي في يده هي بقشة وليست جنيهاً من ذهب... وهزم الساحر وجعله ينسحب... لكننا في "كتاب القاهرة" نلتقي زيداً وهو اكبر سناً، يركب الطائرة للمرة الاولى عام 1958 - وهو في الخامسة عشرة - ليكمل دراسته الثانوية... وهو لا يعرف عن مصر سوى صورة ذلك التلميذ المصري بطربوشه فوق الرأس والشورت والقميص الانيق، والخادمة توصله الى المدرسة عبر الشوارع بحقيبته الجلدية. كانت تلك هي الصورة التي اوصلتها له "القراءة الرشيدة" التي قرأها في المدرسة وهو صغير كان الانبهار قد تحول الآن الى دهشة. فها هو زيد يعتلي "طائر العنقاء الاسطوري" بدويها الهائل وارتفاعها وانخفاضها المفاجئين. ويروي زيد طرفة عن احد المهاجرين وقد عاد الى قريته ليروي لشيخها وأهلها حكاية الطائرة التي تطير في السماء وبداخلها "كهرباء" ومقاعد للمسافرين... فما كان من الشيخ إلا ان اعتبر الرجل مجنوناً يسخر منه وأمر بحبسه! كان ذلك قبل عشرات السنين. لكن طائرة زيد التي اخذته ثانية من اسمرة للقاهرة كانت اكثر تطوراً وفيها وجوه لنساء جميلات ورجال متعددي الالوان. ومن الطائرة يرى نهر النيل متموجاً طويلاً والقاهرة كبحر من الانوار لا نهاية لها... في القاهرة سيرى زيد الفنادق الفخمة والمصاعد الكهربائية التي شبهها بالصناديق السحرية! تضغط على زر فيها فتشعر بأنك ترتفع! اما اشياء الغرفة فكان اكتشافها دهشة اخرى حتى تفاصيل الحمام الذي حسبه الطلبة ماء متفجراً سيغرق غرفهم! لقد كانت القاهرة طقساً آخر لتفتح الوعي: السينما وحديقة الحيوان والقطار والعربات التي تجرها الخيول والسيارات ثم اجواء الريف وسواقيه ونواعيره وبيوت فلاحيه... ولا يخفي زيد تلك الروح الساخرة بل يستعيد بمرح وتندر ذكرى دخوله مع زميل له الى السينما للمرة الاولى ومحاولته المغادرة عندما اطفئت الانوار في الصالة، لولا ان زميلهم الاكبر امره بالبقاء في مكانه لمشاهدة الفيلم! اما الباخرة فلها قصة اخرى حيث اقلتهم من مدينة السويس الى الحُديدة لقضاء الاجازة في اليمن... وتلك مناسبة لاكتشاف مزدوج: البحر وكائناته وطقوسه، والباخرة وما فيها من عجائب لا تقل عن عجائب الطائرة: عملاق الحديد المحلق في السماء. تخرج من كتاب زيد "الانبهار والدهشة" وأنت تحس بأن ثمة مزيداً من الذكريات كان يمكن ان يرويها الراحل الاديب وفي مراحل عمرية لاحقة... لكن ما وصلنا في هذا الكتاب يؤكد مقدرة زيد في رصد جزئيات المشهد المكاني والزماني بوعي صادق لا تزوير فيه ولا تجميل او اضافات وحذف مما نراه في سير ذاتية او مكانية اخرى. لقد كان "الانبهار والدهشة" لافتة تحسس تحتها زيد الاشياء كما رآها اول مرة وكما تشكلت في وعيه صغيراً وكما شكّلها وعيه بها وهو كبير... يسترجع تلك الاطياف البعيدة من طفولته الحزينة والثرية في آن واحد. وأحسب اخيراً ان دارسي زيد دماج روائياً وقاصاً وإنساناً سيجدون في مادة هذا الكتاب ما يلقي الاضواء وينير الكثير من خفايا فنه وأسرار كتابته ومرجعية اعماله السردية المدهشة. * ناقد عراقي مقيم في اليمن.