قابلت الراحل زيد مطيع دماج روائي اليمن الأول مرة وحيدة في حياتي. كان ذلك في بغداد يوم 11/3/1990 وقد نقلت هذا التاريخ من إهداء رقيق ومهذب وعذب كتبه لي على رواية عمره "الرهينة"، وتحديداً على طبعة عراقية كانت صدرت سنة 1988. ما بقي في الذاكرة من هذا اللقاء، أن زيد من هذا النوع من المثقفين الذين يدخلون قلبك مباشرة، فهو إنسان بسيط ويتعامل مع الدنيا بسهولة. قلت له بعد التعارف الإنساني وتبادل الكلمات الخجولة الأولى ان طيبته ذكرتني بطيبة الفلاح المصري في القرية المصرية. وهي كانت جزءاً من شخصيته حتى جاءت سنوات الانفتاح الاقتصادي في منتصف السبعينات من القرن الماضي، أو القرن الذي اصبح ماضياً. فاجأني زيد بقوله أنه تلقى تعليمه في مدينة بني سويف في صعيد مصر، في أواخر الخمسينات وأوائل الستينات. تواعدنا - يومذاك - على لقاء ثان، سواء في القاهرة أو في صنعاء، أنهم يقولون في الامثال "لا بد من صنعا ولو طال السفر". ويقولون في أمثال مصر ان من يشرب من ماء النيل لا بد من أن يعود اليه مرة أخرى. لكن لا زيد جاء الى مصر، تلبية للنداء الأزلي والغامض لمياه نهر النيل، ولا أنا ذهبت الى اليمن... هكذا سافرت في رحلة من أطول رحلات عمري الى بيونغ يانغ عبر بودابست وموسكو - في الذهاب والعودة - وكانت كوريا الشمالية يحكمها وقت وصولي إليها كيم إيل سونغ الزعيم المحبوب من اربعين مليون كوري. هكذا كانوا يصفونه في أحاديثهم اليومية، وهو والد الحاكم الحالي: كيم جون إيل. قرأت "الرهينة" وقتها، بيضة الديك بالنسبة الى زيد. ذهلت من بساطة الحكي وعذوبته وجماله. كنت أتذوق لذة قراءة هذا الحكي الجميل، لدرجة أنني كنت أتابع الصفحات اثناء القراءة، أتابع بتجديد أكثر ما تبقى من صفحات الرواية. وأنا أخشى أن تنتهي الرواية البديعة. كتب زيد "الرهينة" كما لو كان يحكيها، يحكي أحداثها في جلسة مودة خاصة وخالصة، يفضفض ويقول هامساً من دون قيود وأنت تستمع إليه من غير أي مقاطعة من جانبك، كأن تربط بينكما هذه العلاقة الإنسانية الفريدة. حاجة زيد الى الحكي والقول، وحاجتي الى الاستماع والمتابعة وهما من الحاجات الانسانية عند أي امرئ في كل زمان ومكان. و"الرهينة" من الروايات التي تقف وراءها تجربة إنسانية، وهي تجربة لا يمكن أن تتم سوى هناك. عندما كان حاكم اليمن يأخذ رهينة من كل قبيلة من اليمن، وهذه الرهينة يتم حجزها في قلعة اسمها القاهرة في مدينة تعز. والقلعة توفر للرواية مكاناً يصل تفرده الى حدود العبقرية وتجعل له شخصية تتفوق على شخصيات أبطال من العمال. وفي النص امرأة هي الشريفة حفصة، وهي من عائلة امام اليمن، وبطل الرهينة ينقل خطابات حبها اليائس الى مشاعر الإمام، ويقع بين بطل الرهينة والشريفة حفصة ذلك الحب المستحيل. ولكن الجميل في شخصية الشريفة حفصة أنها من ذلك النوع من ابطال الروايات الذي يقف عند آخر تخوم الواقع، وأول مفردات الأساطير. انها تعد - بلا مبالغة - من أهم النماذج النسائية التي قدمتها الرواية العربية المعاصرة. من يومها وأنا في انتظار قراءة نص روائي آخر لزيد. حتى أعيش من جديد تلك المتعة البكر التي وفرتها لي قراءة الرهينة. إلى أن أعطاني صديقنا المشترك جمال الغيطاني كتاب - ولا أقول رواية - زيد الجديد. وكان صدر بعد رحيل زيد عن عالمنا. وكان جمال مع جابر عصفور يحكّمان في مسابقة أدبية هناك. وقدم ابن زيد الكتاب لجمال. والكتاب كان زيد قد أهداه الى حمدان دماج الشاعر والقاص المبدع. الكتاب عنوانه: "الانبهار والدهشة" صدر عن دار رياض الريّس، 2000 وهو عبارة عن كتابين. الأول كتاب تعز. والثاني كتاب القاهرة. والكتابان يقفان في منتصف المسافة بين أدب الرحلة والسيرة الذاتية، رحلة في المكان ورحلة في الزمان. لحظة حصولي على هذا الكتاب الصغير كنت سعيداً. لأن العثور على كتابة تعيد للعين متعة القراءة، مسألة ليست سهلة في هذه الأيام. في كتاب تعز، يكتب زيد عن المدينة التي "لم يخلق مثلها في البلاد"، مدينة اسطورية عششت كحمامة وديعة في خيالي منذ الطفولة والصبا. تظهر فيها روايات وقصص لا تنضب حتى اليوم. ومن قراءة كتاب تعز اتضح لي أن الإنسان الذي مر بتجربة الرهن لدى الإمام أحمد حميد الدين، ليس زيد ولكن ابن عمه. فزيد يحكي زيارته لقلعة القاهرة عندما ذهب ليرى ابن عمه. وهذا الاكتشاف كان لمصلحة زيد وليس ضده. ذلك أن استعادة روائي لتجربة انسان آخر، وتقديمها في نص روائي مملوء بالتفاصيل الصغيرة، هما من الانجازات الروائية المهمة، التي تؤكد نعمة الخيال الإنساني، وقدرته على أن يمنح الإنسان واقعاً بديلاً من الواقع الحقيقي. ان هذا الخيال، عندما التقى بالصدق النادر الذي كتب زيد معتمداً عليه جعل من النص شهادة نادرة تقول وتؤكد أن المحلية في النص الروائي هي الطريق الى آفاق العالم. والكتابة عن جمال تعز الذي يفوق الخيال، لا نجدها في كتاب زيد فقط. فقد قال لي نجيب محفوظ إن أجمل ما شاهده في حياته، كان جمال أعين بنات تعز. وأن أجمل مدينة زارها هي تعز، وطلب مني العودة الى قصته القصيرة الطويلة "ثلاثة أيام في اليمن"، المنشورة ضمن مجموعته القصصية "تحت المظلة" وكانت صدرت طبعتها الأولى سنة 1969، وإن كانت قصصها مكتوبة بين تشرين الأول وكانون الأول أكتوبر وديسمبر 1967، أي بعد هزيمة الخامس من حزيران يونيو 67 مباشرة. اكتشفت ان نجيب محفوظ يكتب في قصته هذه عن بيت الرهائن عندما زار تعز وهي القلعة التي كتب عنها زيد مطيع دماج روايته. ويقول إن بيت الرهائن وقت زيارته - أي نجيب محفوظ - كان خالياً. لم يكن فيه رهينة واحدة، والسبب معروف، تلك الثورة التي قامت أبطلت هذه العادات الغريبة. أما عن عيون بنات تعز، فكتب نجيب محفوظ عنها في قصته: "أدارت نحوي عينيها، فرأيت وجهاً صغيراً، نقي البشرة، يحدق فيّ بعينين سوداوين، كأجمل ما رأيت في حياتي من عيون، وجف قلبي لرؤيتها وفاض بي نبع من الحنان والحب". أما مدينة تعز نفسها فيصفها هكذا: "الحقول خضراء، المراعي خضراء، الطرقات مجللة بالاشجار. الحدائق أكثر من البيوت، عدا سلسلة من الجبال كالانغام المتموجة مكسوة بالزمرد مزركشة بالازهار". الكتاب الثاني من مؤلف زيد عنوانه "القاهرة"، وهو يقدم فيه تجربة جيل عربي عندما كان يأتي الى القاهرة طلباً للعلم. وكتاب القاهرة شهادة على دقة عنوان الكتاب كله: "الانبهار والدهشة" فموقف زيد من كل ما شاهده كان ينطلق من هاتين الكلمتين: الانبهار والدهشة. كان زيد منبهراً ومزهواً شامقاً لحظة دخوله في جوف الطائرة البدائية القديمة، إلى نزوله في مطار الماظة. يجلس في الطائرة من مطار أسمرة الى مطار القاهرة يصف امرأتين جالستين أمامه: "جلست امرأتان في الكراسي الامامية، مما تفنن الخالق الباري عزت قدرته في خلقهن، تدلى شعرهن المنفوش الطويل من خلف الكرسي الى أمامنا، كان عجباً، كأنه خيوط الذهب. حاول زميلي أن يلمسه ولكن نهرته بشدة". يكتشف زيد القاهرة: يذهب الى السينما، سينما كليبر وينزل في فندق فكتوريا ويسمع باعة الجرائد ينادون لحظة الفجر: اخبار، اهرام، جمهورية، ويرى القطار ويستقله من القاهرة الى بني سويف، وينام على سرير - للمرة الأولى في حياته - والسرير في غرفة واسعة، ولا يعرف كيف يستخدم دورة المياه ويتعلم كيفية تناول الطعام بالشوكة والسكينة والملعقة. عندما يصل زيد الى محطة مصر للقطارات، يصفها هكذا: "عالم عجيب ومدهش. يفرض على أي إنسان أن يدقق النظر في كل شيء يراه، صغيراً كان أم كبيراً. وتحديداً على يافع مثلي قادم من أدغال التخلف وكهوفها. ونجا بأعجوبة من الموت والأمراض والجهل". وإن كان زيد يكتب عن القاهرة وبني سويف وأجواء مصر في نهاية الخمسينات وبداية التسعينات فناً صافياً وبروح شفافة، وبلغة تخلو من الترهل والسجع والجناس، فإن عبدالعزيز المقالح، شاعر اليمن ومثقف اليمن، ووجهها الحضاري يضع رحلة زيد وزملائه، في سياقها القومي والحضاري عندما يكتب في مقدمة الكتاب: "هذا هو زيد مطيع دماج. الفنان الذي ينتمي الى جيل الصبر والمعاناة، جيل التنوير والحرية والتطلع نحو حياة كريمة خالية من القمع والحقد والتخلف، وهذا هو الجيل الذي تكون فكرياً واخلاقياً في زمن التحولات العظيمة، زمن جمال عبدالناصر والثورة العربية وما رافقها من ملاحقة الاستعمار وأذنابه من طغاة وحراس أوثان التخلف والظلام". "الانبهار والدهشة" عبارة تصلح عنواناً لمشروع زيد مطيع دماج كله، سواء أكان ما يكتبه تحت هذا العنوان نصاً روائياً، أم قصة قصيرة، أو أدب رحلات في الزمان أو المكان. إن القدرة على الاندهاش بطولة من النوع النادر، وأي فنان يفقد القدرة على الدهشة، يفقد الكثير من مقوماته كفنان. * كاتب مصري.