كان من المتعارف عليه في النظرية النقدية العربيّة الكلاسيكية، أنّ الشعر مؤسس على اللغة من حيث الجَرْس والاشتقاق والتوليد، والصورة من حيث الابتكار والتركيب. هذا لجهة التقنيات العملية لصناعة الشعر، باعتبار الشعر صناعة والنثر صناعة، وعليه فقد ألّف أبو هلال العسكري كتابه النظري النقدي المسمّى "كتاب الصناعتين". أما لجهة ما يفرّق نوعياً بين النثر والشعر، فقد سلك النقد العربي القديم في ذلك، وحتى مشارف القرن العشرين، مسلك النظرية الأرسطية في كتاب أرسطو عن الشعر وتبعه فيه أفلاطون ومن ثَمّ الفلاسفة العرب من أمثال الفارابي وابن سينا، متأثرين بالنظريّة اليونانية. تمّ النظر الى الشعر على أنه مؤسس جوهرياً على الخيال الموقّع والمضبوط بالوزن. ما يعني أنّ ثمة عنصرين ملتحمين في تحديد الشعر وبالتالي تمييزه عن النثر: المخيّلة والوزن... فكتابة الخيال من دون وزن تصنع نثراً نستطيع تسميته السجع أو السرد أو الخطبة أو المقالة أو الإشارات والتنبيهات كما في صنيع الصوفيّة أو ما أشبه ذلك، ووزن بلا مخيّله نظم ولا شيء في الميزان، وعليه فقد هجا ابن الرومي، غريمه المسمّى "عمرو"، بقوله فيه في قصيدته الشهيرة التي تبدأ بالبيت التالي: "وجهُكَ يا عمرو فيه طولُ وفي وجوه الكلابِ طول ..... مستفعلن فاعلن فعولُ مستفعلن فاعلن فعولُ بيتٌ كمعناك ليس فيه معنى سوى أنه فُضُولُ...". وقد عدّلت النظرية النقديّة الحديثة من ارتكاز الشعر على الوزن، في أوروبا أوّلاً، ومن ثَمّ في اللغات الحيّة بكاملها، وصولاً الى اللغة العربيّة، حيث تمّ البحث عن معادل داخلي وبنائي إيقاعي آخر، غير الوزن الخليلي أو مفرداته أو مركباته، لتتأسّس عليه موسيقى القصيدة، التي لا بد منها، كالتكثيف واللمح، والخطف، والحركة النفسية الداخلية في ما سمي بالموسيقى الداخلية وعناصر أخرى ساعدت في توليد نظرية ونصوص "قصيدة النثر"... إلاّ أن ثمّة، في المقابل، من لا يزال يصرّ على وجود الوزن، بمعناه القديم من حيث نواته في التفعيلة، لا في عدد التفعيلات وانتظامها الصارم في الشطرين، كشرط ايقاعي جوهري للشعر. ولم يتمّ اختلافٌ للنقّاد والشعراء حول عناصر الخيال... باعتباره الجوهر المضاد للواقع. فالسريالية مؤسسة على هذا الخيال، وعلى ما فوق الواقع Sur rژel أو ما تحته من تخيّلات وأحلام مكبوتة، وعلى الحياة الباطنيّة في غموضها وغليانها وآلياتها، كمصدر للشعر. والبناء الصُوَري كان ولا يزال عنصراً جوهرياً في القصيدة، وإن اختلفت الأبنية والتراكيب الصورية تبعاً لتقنيات الشعراء وأساليبهم، كما أنّ اللغة كانت ولا تزال في أساس القصيدة، حتى لنكاد نرى الى القصيدة على أنها طفل اللغة الذي لا يكبر ولا يهرم ولا يشيب، أو زهرة كيمياء اللغة، في وعيها ولا وعيها، وفي أصلها واتساع دلالاتها الى ما لا نهاية باعتبارها أساس التوليد والابتكار... وفي التوليد والابتكار، يتطور الشعر ويتغاير... حتّى لكأنّ أفق الشعر المفتوح على مصراعيه للمستقبل كائن في "اللغة". على ذلك، يكون ديوان الشاعر السوري "ممدوح السكاف"، الأخير الصادر له عن مطبوعات اتحاد الكتّاب العرب بدمشق، المسمّى "على مذهب الطيف"، أخذ من عناصر الشعريّة القديمة والمتجددة، بعنصر اللغة واشتقاقاتها وضدياتها، واختلافها وائتلافها، ما شاءت له غريزته اللغوية من منال، وسكب هذا اللعب اللغوي الواسع المدى في أوعية موسيقى التفعيلة، ومن شدّة ما كان ملحّاً وحاشداً في الأمرين معاً، وكاسراً فيهما، بخاصة في مسألة الاشتقاق اللغوي والتناسل الكلماتي، ظهر لنا عمله الشعري أقرب ما يكون الى غريزة اللغة الحيّة، بمعنى الضرورة والتلقائية، حتّى لكأنه يتنفّس هواء اللغة، ويأكل خبزها، وتكاد التداعيات لديه، على رغم أنها قديمة ومدرّبة، تظهر وكأنها تلقائية، بل أكثر من ذلك، آلية... وهذه الميزة، جوهريّة في تحديد صنيعه الشعري، والدلالة عليه... بمعنى أنها جزء أساس في أسلوبه، حتى ولو سترتَ اسمه تحت القصيدة، فإنك تعرف أنها له، تبعاً لطغيان الاشتقاقات والضديات التي تحتشد بها. وإنّ في الإمكان إعطاء أكثر من "نواة شعريّة" واحدة، تكاد تكون أحياناً "مقطعيّة" لا "جُمليّة"، وربما امتدّت أو تسرّبت الى القصيدة بكاملها، لإيضاح هذا الأسلوب. فهو يقول في قصيدة "أغنية" وهي من أولى قصائده في الديوان: "لسيّدةِ البين بانَتْ ببينٍ مُبينٍ توارى ابتعاداً عناداً/ ودون وداعٍ دعتني دعاوى لحتفي/ رأيت الى النور أمسى ظلاماً..."... ومثله في قصيدة "حريّة": "... وكوني على مذهبي طيف طيفي وطوفي معي في حضور الغياب..."، ونضيف على سبيل المثال لا الحصر، قوله في قصيدة "آيات من سورة الجسد": "... فنحتسي من ريّها ريّاً على ريّ ونضحك ضحكةً بيضاء تضحكها الحياة"، وقوله في قصيدة "الاختلاجة": "أنتِ كائنةٌ مكوّنةٌ من الكون المكوّن في ضميرٍ من كيان..."، وفي مقطع "الكينونة": "... وانقادت لسرٍّ من أسارير لتنضح من سرير في سريرتها..."، وفي مقطع بعنوان "المعانقة": "كان الرعد يرعد رعده النشوانَ في نومي/ يهدهدني أهدهده..."، وفي قصيدة "حديقة الليل": "رملي على الشطآنِ يُرْمِلُني شَتاتاً في شتاتْ/ ومنيّتي مُنيَتْ بأشلائي.../ وأنا أصلّي لاقترابك في ابتعادك هل لوصلِكِ من صِلاتٍ أو صلاةْ؟"، ويقول في مقطع بعنوان "الشفافيّة": "لسيّدة القربِ في البعد أجهشُ: هل أنت حاضرة الغيبِ؟ أم ميتة في حياة؟/ سماء على الأرضِ تطبقْ في قبلةٍ كالسعير..."... والشاهد الأخير على نواة صنع القصيدة لدى السكاف قوله في مطلع مقطع "الجنّة": "لسيّدةِ الخُلْفِ أخلفتُ وعداً يواعدني موعداً بالثواني". والملاحظات التي يمكن أن نبديها على هذه النماذج، وهي نماذج نمطيّة من الصنيع الشعري لممدوح السكاف، هي الآتية: أولاً: نحن أمام شعر يحتفل احتفالاً مستمراً بالضديات. وهذه الضديات قد تكون مركزة في المعنى في ما يسمى بالطباق في علم البلاغة والبيان، وربما جمع الى الطباق جناساً تامّاً أو مجزوءاً، والطباق والجناس معاً أو الجناس في الطباق في مثل هذه الكتابة الشعرية، يلاحق القصيدة من أولها الى آخرها، دونما راحة ولو جزئيّة، ما يجعل المقاطع شبيهة بمويجات متتالية تلغي كل موجةٍ سابقتها من حيث تتابعها، وتندفع الى سواها لتلعب معها اللعبة ذاتها. الاثبات والنفي ثمة التباس عذب في هذه اللعبة لجهة الاثبات والنفي دونما فواصل، بين الكلمات والمعاني، لكنه إذا أوغل به الشاعر من دون ضوابط، قد يصل به إما الى الترصيع البياني والبلاغي، أو إلى الضبط المسبق لآلية الكتابة... فما إن يبدأ مقطع ما من المقاطع، بكلمة، حتى يستدعي التداعي الآلي كلمة أخرى إما من نسلها، أو نقيضها. فالضديات في المقاطع الآنفة الذكر هي الآتية: حضور/ غياب. نور/ظلام. اقتراب/ابتعاد. الموت/الحياة... وما يشبه ذلك. بل نرى الى الجمل المتضادة التي يلبس فيها الضدّ ضدّه مباشرة كقوله: "مدّي يديكِ إليّ كيلا نلتقي" أو "ترنو الى فجر ظلمتها" أو "غيهب من فضاء الشعاع" أو "زهرة البعد في القرب"، أو "جنّة الشوك" أو "تجعلني سيداً في السجود"، وما الى ذلك وما يشبهه بلا انقطاع. ثانياً: التداعي اللغوي الذي لا يهدأ، فإذا كانت الضديّات في القصيدة شاهدة على انزلاق اللحظة الدائم من يد الشاعر وكأنها سمكة في ماء جارٍ أو كأنّ شعره بكامله هو "طيف" وديوانه "على مذهب الطيف"، فإن التداعي اللغوي يشير بل يؤكد دالاّ الى أنّ الكلمة تولّد مباشرة أختها، والأخت بعد ذلك أختها، في ما يشبه عوائل لغوية صغيرة. فكلمة "البين" في مطلع القصيدة، تستدرج مباشرة مشتقات منها: "لسيدة البين بانت ببين مبين" وهي أربعة بلا فواصل. كذلك "ريّ": "نحتسي من ريّها ريّاً على ريّ"، وثمة خمسة مشتقات من كان: "أنت كائنة مكوّنة من الكون المكوّن في ضمير من كيان" و"سرّ" له مشتقاته الأربعة المتتالية: "سرّ من أسارير لتنضح من سرير في سريرتها"... وهكذا، وعلى هذا المنوال أو شبيهه، نجد كلمات تتناسل من ذاتها أو عوائل كلمات يلعب فيها حرف ما دور اللازمة، في أكثر من كلمة. فالباء والنون تتكرران في جملة ومشتقات البين، والطاء والياء والفاء في كلمة "طيف" ومشتقاتها، والراء والياء في كلمة "ريّ" ومشتقاتها والكاف والنون في "كن" ومشتقاتها... حتى أننا قد نعثر على مقاطع بكاملها مؤسسة على تكرار حرف بعينه في كلمات المقطع. فالحاء واللام مثلاً في مطلع قصيدة "حالة" تتكرران ست مرات متتالية في سبع كلمات هي كلمات السطر الأوّل: "لسيّدة الحول هذا التحوّل حوّل حالَكِ حالاً لحالِ" والغين وقريبتها العين تتواليان 4 مرات في أربع كلمات: "لسيدة الغيم غامت عليّ غيوماً"... فأي ترصيع هو هذا الترصيع، وأي زخرف لغوي هذا الزخرف، حتى لكأن المقطع من القصيدة أو القصيدة توالي فسيفساء أو منمنمات لا تنتهي، في ما يشبه الأرابسك الشعري.