كان حريّاً بوزير الثقافة اللبناني غسان سلامة أن ينسحب من جلسة مجلس الوزراء الأخيرة أسوة ببعض الوزراء الذين انسحبوا احتجاجاً على اقفال المحطة التلفزيونية "أم تي في". ربّما ما كان مثل هذا الانسحاب ليؤثر في قرار الإقفال الظالم جداً، وهو كما يردّد الكثيرون قرار سياسيّ صرف، لكنّه كان قادراً على انقاذ الثقافة الرسمية، ولو شكلاً، من الفضيحة التي أصابت المجتمعين حين تجاهلوا الاقفال تجاهلاً تاماً في تلك الجلسة التاريخية. طبعاً استنكر وزير الثقافة خارج الاجتماع اقفال المحطة ودافع عن الحريّة اللبنانية على غرار بعض الوزراء أيضاً. ونمّ استنكاره عن ايمانه بهذه الحرية، وكيف لا وهو المثقف الكبير والجامعي والكاتب، وهو الوزير الذي جعل من وزارة الثقافة شبه مؤسسة على رغم موازنتها الضئيلة وفقرها المدقع. لو صدر الاحتجاج داخل تلك الجلسة "الصماء والبكماء والعمياء" كما وصفها البعض لكان عبّر عن موقف معظم المثقفين اللبنانيين الذين يزداد تهميشهم في زمن الخطابة الوطنية الفارغة والشعارات الرنانة والطنانة وفي مرحلة "ديموقراطية" بامتياز، تسمح لبعض أشباه السياسيين أن ينقضّوا على المنابر ويخنقوا الأصوات الحقيقية والمعترضة. والمشهد الذي ضجّ به مقرّ نقابة الصحافة يختصر بحقّ واقع الحياة السياسية في لبنان التي حوّلها السياسيون "الموالون" الى حياة تزلّم وتبعيّة، محاولين جعل لبنان "مزرعة" جديدة. وكان ينقص هذه "المزرعة" تلك الخراطيم، خراطيم المياه التي راحت تجرف المتظاهرين المطالبين بحريّة الرأي ولقمة الخبز بعدما اقفلت "دولة المؤسسات" مؤسستهم الإعلامية. راحت خراطيم الدولة تجرف، على مرأى من الجميع، المتظاهرين المسالمين وكأنّهم حشرات ممنوعة من أن ترفع صوتها أو تحتج ولو سلميّاً. أجل إنها خراطيم الدولة التي عوض ان تخمد الحرائق، باتت تشعل نار الضغينة في النفوس. إنّها الخراطيم التي باتت تطوّق الساحات والأحياء وتؤازرها البنادق والقنابل والأقنعة وكأنّ المتظاهرين هم "المخرّبون" الذين طالما سمع اللبنانيون عنهم من دون ان يعرفوا من هم. أجل حصار "ديموقراطي" داخل النقابات وحصار بالخراطيم والبنادق في الخارج. أما الشمع الأحمر فأضحى يصبغ كالدم الوجوه والأيدي، وجوه الذين لا وجه لهم وأيدي الذين يقفلون الأبواب والنوافذ والمنابر... كان مضى زمن لم نسمع فيه بما يُسمى "الشمع الأحمر" يقفل المحطات الإعلامية ويدفع الأبواب والقلوب. لا يستخدم "الشمع الأحمر" إلا حيثما يجب ان يستخدم ليصون سلامة الناس وحريتهم الشخصية والعامّة. أمّا أن يستخدم لإقفال الأفواه والآذان والعيون ولختم الحريات والحقوق، فهذا من قبيل المبادرات الظالمة التي خلفتها الأنظمة الديكتاتورية التي ولّى الكثير منها. عندما يذوب الشمع الأحمر في غير محلّه يستحيل دماً وربما دمعاً أحمر قانياً... كم كان من المهم ان يرتفع صوت يمثل معظم المثقفين اللبنانيين، صوت يقول: لا للشمع الأحمر، لا للارهاب المهذّب، لا للقمع، لا... فالثقافة اللبنانية ينبغي أن تظل خطّ الاحتجاج الأخير في وطن يسعون الى تدجينه كاملاً والى محاصرته من كلّ الجهات. ما زالت الثقافة في لبنان هي الجدار الأخير القادر على مواجهة العاصفة التي تهبّ من هنا وهناك. وكم جدير بأهل الثقافة والقيّمين عليها ألاّ يجعلوا هذا الجدار أطلالاً أو حائط مبكى! قضية اقفال المحطة التلفزيونية "أم تي في" هي قضية ثقافية قبل ان تكون قضية سياسية أو اعلامية، قضية ثقافية لأنّها تمسّ جوهر "التركيبة" اللبنانية التي طالما اعتبرت الحريّة خطاً من خطوط تماسها الأولى. إنها التركيبة اللبنانية في ما تعني من اختلاف ووفاق، من انسجام وتناقض، من وحدة وتعدّد، من وئام وبغضاء... إنها "التركيبة" التي تعجز الدولة الراهنة - كلّ العجز - عن صهرها وطنياً واجتماعياً لتجعل منها كياناً أو صيغة متماسكة. أما الشمع الأحمر الذي تقفل به الأبواب والأفواه فهو يشبه الدمع الأحمر الراقد في عيون المواطنين المقهورين، اجتماعياً وسياسياً واقتصادياً ومعيشياً. إنّه الشمع الذي سيستحيل شعلة حارقة، في يوم ما، في سنة ما...