يمكننا ان نتفهم اعتبار رئيس وزراء بريطانيا توني بلير هجمات 11/9 التحدي الأكبر الذي واجهه في حياته السياسية. لكن قراره الأول في هذا الشأن - الوقوف "كتفاً لكتف" الى جانب أميركا - لا يقاس من حيث خطورته بمقامرته الراهنة. وربما كان عليه قريباً، بعد نحو سنة على القرار الأول، ومع تجمع سحب الحرب على العراق، أن يدفع ثمناً باهظاً لمساندته غير المشروطة لأميركا. بل هناك من يقول باحتمال نهاية "الغرب" كوحدة متماسكة، أي طلاق مؤلم بين أميركا وأوروبا، بسبب اصرار القوة العظمى الوحيدة على الاطاحة بزعيم عربي مزعج. في الأيام الأولى من الأزمة ارتسم المشهد في اذهان صانعي القرار البريطاني بالأبيض والأسود. فقد كانت الهجمات على أميركا عملاً ارهابياً مذهل البشاعة، وكان اسامة بن لادن وتنظيم القاعدة المرتكبين الأكثر ترجيحاً. ولذا كانت الحرب على نظام طالبان، الذي كان يؤوي القاعدة، ضرورية ومبررة. ثم تبين ان ازاحة طالبان لم تكن سوى أول "تغيير للنظام" في تلك الأزمة. العلامات الأولى على المعارضة لتوجهات بلير جاءت من البريطانيين المسلمين. وكانت المجموعات التي تمثل التيار الرئيسي في الرأي العام الاسلامي سارعت الى ادانة الهجمات على أميركا والاصرار على استنكار المسلمين العميق للارهاب. لكن مع تساقط القنابل على أفغانستان، مع الخسائر المتوقعة في الأرواح في صفوف المدنيين، بدأ الرأي في التحول. واكتشفت الحكومة ان تأييد المسلمين ليس من قبيل تحصيل الحاصل. وتعلمت الحكومة دروساً قاسية من الحملة لكسب قلوب وعقول المسلمين. من ذلك ان توني بلير، ادراكاً منه لقلق المسلمين تجاه ما يدور في فلسطين، قام بدعوة ياسر عرفات الى لندن. لكن اذا كان هدف الحكومة البريطانية من ذلك اقناع ادارة جورج بوش بالتدخل في شكل أقوى لصالح اقامة الدولة الفلسطينية فقد باءت تلك المبادرة بالفشل. وراقبت لندن بانزعاج مساعي واشنطن المتزايدة، على رغم من تأييد بوش المعلن لحل للصراع يتمثل بإقامة دولتين، لتهميش عرفات والباسه قناع الشيطان. ذلك ان "تغيير النظام" في رام الله لم يكن هدفاً تريده أوروبا. كما صُدم البريطانيون والأوروبيون عموماً بخطاب بوش عن "محور الشر"، الذي لم يسلط الضوء على هوس الأميركيين بالعراق فحسب، بل تجاوزه الى اتهام ايران ب"الشيطانية" ايضاً، مع اضافة كوريا الشمالية، لتنصيب ثالوث غير مقدس. وأوضح المسؤولون الأميركيون أنهم يفضلون رؤية حكومة جديدة في ايران، لكنهم لن يتخذوا خطوات لاسقاط النظام الحالي، لأن تلك مهمة الشعب الايراني. ولم يكن في هذا ما يريح رجال الدين الحاكمين في طهران، ولا الأوروبيين الذي يتخذون منذ زمن طويل سياسة "التعامل الايجابي" مع ايران. وأعطى خطاب "محور الشر" أيضاً اشارة واضحة الى أن حرب جورج بوش على الارهاب قد دخلت مرحلة جديدة مختلفة تماما. فمع العزم على مواصلة الحملة في انحاء العالم على تنظيم القاعدة تمت اضافة هدف جديد: أسلحة الدمار الشامل. ورأت الادارة الأميركية ان الهدفين وثيقي الارتباط، فيما اعتبر الأوروبيون أن بوش غيّر قواعد اللعبة كما يحلو له. لكن قضية العراق تضع السياسة الخارجية البريطانية على مفترق تاريخي. فعندما يشير البريطانيون الأكبر سناً الى "سويس جديدة" يعني ذلك ان هناك شيئاً استثنائياً في ما يجري. فقبل نحو خمسين سنة حاول رئيس وزراء بريطاني انتوني ايدن اسقاط حاكم عربي جمال عبد الناصر، بعدما فيه رأي فيه خطراً على مصالح الغرب وتقمصاً لهتلر. ولا بد ان تشبيه الوضع الحالي بما جرى حينذاك يشكل مصدر قلق كبير لتوني بلير. فقد أدت أزمة السويس الى انشقاق مؤلم في الرأي العام، داخل بريطانيا وعلى الصعيد الدولي، فضلاً عن انتهائها بفشل مخزٍ لبريطانيا. واذا دعم بلير الحرب على العراق وشارك فيها، وهو الاحتمال الأرجح، فهو يخاطر ليس فقط بإثارة انشقاق حاد في بريطانيا بل أيضاً بخلافات حادة مع منطقتين حاسمتي الأهمية، أوروبا والعالم الاسلامي. وكان المستشار الألماني غيرهارد شرودر أعلن في تأنيب متقصد أن بلير لا يتكلم باسم بقية أوروبا. أما الدول الاسلامية، ومن بينها بعض أهم حلفاء الغرب مثل المملكة العربية السعودية ومصر وتركيا وباكستان، فقد أوضحت خشيتها من الضربة العميقة الى الاستقرار التي توجهها الحرب على العراق. ويخشى كثيرون من ردة الفعل على صعيد الرأي العام المسلم، في الوقت الذي تتصاعد فيه مشاعر العداء للأميركيين أصلاً. ولم تقتنع قطاعات كبيرة من العالم بموقف بوش القائل بأن "تغيير النظام" هو السبيل الوحيد لازالة أسلحة الدمار الشامل العراقية. ولا يعتقد كثيرون بالادعاءات الأشمل التي يطلقها بعض صقور واشنطن، بأن الطريق الى السلام في الشرق الأوسط يمر عبر بغداد، أو ان الحرب ستدعم الأمن بدل أن تهدده. الحروب، أو بوادرها، تؤدي في بريطانيا عادة الى اصطفافات تقليدية في الرأي العام. لكن الأمر يختلف هذه المرة. ونجد صحيفة مثل "دايلي ميرور"، التي تمثل القطاعات المحافظة من الطبقة الوسطى، تحذر من "حرف الحرب المبررة تماماً ضد القاعدة، ومن دون سبب مقنع، الى حرب ضد دولة ذات سيادة لا علاقة لها بتدمير البرجين". وتساءلت الصحيفة: "هل سنرى جنودنا يرسلون الى المخاطر، من دون موافقة قلبية من الشعب البريطاني، تنفيذاً لما يعتبره رئيس الوزراء الموقف الصحيح؟". كاتب وصحافي بريطاني.