بعد 12 عاماً على غزو الكويت لم يعد الشارع الأردني قادراً على إعادة انتاج حماسته القديمة للعراق، فثمة مشهد جديد أكثر انقطاعاً عن الماضي، تباعدت فيه المسافات بين عمان وبغداد، وتراجعت الى حد كبير حركة الشاحنات، ومعها الوفود الرسمية والشعبية المتبادلة على الطريق الصحراوية الطويلة بين العاصمتين. وقبل أن يطبّع الأردن علاقاته مع الكويت، ويشطب اسمه من قائمة "دول الضد" في السنة الأولى لحكم الملك عبدالله الثاني العام 1999، كانت الصورة أشد وضوحاً في الشارع الأردني الذي شهد تكدس مئات الآلاف من العراقيين: فقراء وسياسيون معارضون لصدام ومثقفون يبيعون مكتباتهم على أرصفة عمان سعياً وراء خبز ودواء. فالأردنيون اليوم متفقون مع الموقف الرسمي على حجم "الكارثة" التي ستنجم عن ضرب العراق عسكرياً، لكن بقاء صدام حسين في الحكم أو الاطاحة به لم يعد شغله الشاغل، كما لم تعد شوارع المملكة تحتشد بالمسيرات والتظاهرات المناصرة لصدام، على الرغم من التهديدات الاميركية اليومية للعراق. ويرى محللون أردنيون أن "المشاعر الشعبية التي قادت الموقف الرسمي عام 1990 ووجهته باتت في آب اغسطس 2002 على قناعة تامة ان الثمن الذي سيدفعه الأردن الآن جراء تأييده العراق سيكون باهظاً"، فيما يشير آخرون الى أن التراجع الحاد في الحريات العامة في الأردن، وخصوصاً بعد أحداث 11 أيلول سبتمبر "ساهم الى حد كبير في تكبيل اندفاع الرأي العام تجاه العراق". ودليلاً على التغير اللافت في المشهد الأردني يشير المحللون أيضاً الى ان انشغال الأردنيين بالأزمة الاقتصادية الصعبة التي يعيشها بلدهم بات الأكثر إلحاحاً، في وقت تغير فيه الشعور العام حيال صدام حسين، وتضاءلت كذلك أدوات التعبير، بفعل قوانين واجراءات ضيقت الهوامش في المملكة. ويلفتون أيضاً الى ان حرب الخليج التي اشتعلت منذ احتلال العراقالكويت العام 1990 جاءت بعد عام من توجه العاهل الأردني الراحل الملك حسين نحو الديموقراطية واجراء انتخابات نيابية العام 1989، ما انعكس ايجاباً على الشارع الذي كان متحمساً للتعبير عن مكبوت متراكم من مرحلة عرفية طويلة. أما الموقف الرسمي الذي يحسب حسابات المصالح الاقتصادية مع العراق، ويعارض بقوة ضربة جديدة لبغداد، فلا تزال مخاوفه قائمة من تكرار التجربة التي عاشها قبل 12 عاماً ودفع نتيجتها ضريبة سياسية أدرك كلفتها عندما دفعت حرب الخليج نحو نصف مليون أردني وفلسطيني الى أراضيه، ضاعفوا العبء الاقتصادي على المملكة التي خسرت تالياً دعم الدول الخليجية التي كانت تستوعب عمالة وبضائع أردنية فضلاً عن مساعداتها المالية ودعمها السياسي. وهكذا، فإن الأردن الذي يشدد دائماً على انه "الأكثر تضرراً من أي ضربة قادمة للعراق"، مثلما كان يعتبر نفسه الخاسر الأكبر من حرب الخليج، ليس في وارد "تقنين التعبير" أمام الشارع وقواه السياسية على نحو أكثر صرامة، فقد أوكل هذه المهمة الى الشارع نفسه الذي بات يعي حجم الخطر المحدق من جبهة شرقية مهددة وأخرى غربية ما يزال حلمها "بالوطن البديل" قائماً ومرعباً.