قضية الرقابة على الكتب تظل مثار سجال دائم في كل العواصم العربية. وكيف اذا كان الرقيب احياناً من اهل الثقافة والأدب. انها حال من التناقض الحاد والأليم. برزت علاقة المثقف بإشكالية الرقابة على صفحات "الحياة" في الأسابيع الماضية من خلال تقارير صحافية ومقالات لكتاب مثل مودي بيطار وإيليا حريق ونبيل سليمان... والأخير أثار قضية شائكة فعلاً في مقالته - الرسالة إلى زكريا تامر 26 تموز/ يوليو، وعبر عن دهشته لعمل تامر "الخارج عن كل أطر رقابية" بصفته رقيباً على الكتب في اتحاد الكُتاب في سورية، ليخلص إلى ما يفيد أن "الرقيب الموظف الجاهل" خير من الرقيب المثقف. وغضاً للنظر عن دلالة صفة "الجاهل" في جملة سليمان، وعن حاجة فكرة "الخيرية" في المفاضلة بين الرقيبين إلى شواهد محققة، تثير المقالة تساؤلاً ضرورياً عن مدى فهمنا أدوار ذلك الكائن الاجتماعي المسمى مثقفاً، وتستدعي المقالات كلها والتقارير سؤالاً ضرورياً عن الفرص المتاحة لثقافة خارج الشرط السياسي لأية سلطة. معلوم أن أنشطة الثقافة لا تضمن للمثقف الوفاء بفواتيره الشهرية، ولا بد له من عمل تقليدي يدعم متطلبات أدواره الاجتماعية المتعددة، ويعينه أيضاً على أن يكون مثقفاً لبقية الوقت. ونظراً الى طبيعة الاهتمام الشخصي والخبرات المكتسبة يعمل أكثر المثقفين في المهن الثقافية المرتبطة بالنشر، كرئاسة التحرير ومستشاريته وعضوية لجان القراءة والتحرير والتصحيح اللغوي، وكلها مهن رقابية بصورة ما. لكن الظاهر من آلية الرقابة فيها أقل بكثير جداً من المتواري خلف إجراءات وقرارات يتحكم في شبكة خيوطها الهوى السياسي. الرقابة وظيفة محورية في بنية أي نظام، ويمارسها الرقباء بحدس سياسي حتى وإن كان هؤلاء الرقباء مثقفين وأدباء. فانسجامهم مع النظام - باستثناء الغرض النفعي - ما جاء في الأصل إلا من إيمان ببعض الرموز فيه، أو توهم قدرة المثقف على التغيير، وأحياناً مجرد الأمل في أن المستقبل قد يأتي بجديد. لكن حقيقة الحال أن الرقيب وكيل سياسي للنظام، وبما أن الموكل يضع القواعد دائماً، فليس على الوكيل سوى أن ينفذ الطلبات الرقابية الصريحة، ويتبع، محاذراً، الحدود الغامضة للتعليمات، خصوصاً إذا كانت أفكار العمل الأدبي ستنشر على نطاق واسع، كما هو الحال عند نقله إلى المسرح والسينما. بعد هزيمة حزيران يونيو 1967 قدم سعد الدين وهبة مسرحيته "سبع سواقي" المنشورة في كتاب لعرضها على المسرح، فحولت إلى نجيب محفوظ، الذي عمل زمناً في الرقابة ومستشاراً لوزير الثقافة، وكان رأيه أن المسرحية رائعة ويمكن عرضها ولكن ليس في هذا الظرف التاريخي الصعب، فذهبت إليه الكاتبة صافيناز كاظم في إحدى جلساته مع أصدقائه، واحتجت بعنف على رفضه المسرحية وهو المثقف الأديب، فعلق على تلك الملاحظة بأن المثقف شيء والموظف شيء آخر ولا يجوز أبداً الخلط بينهما. وفي منتصف السبعينات رفضت الرقابة معالجة سينمائية قدمها صلاح أبو سيف لرواية يوسف القعيد "يحدث في مصر الآن". وعندما تظلم أبو سيف من القرار أرسلت المعالجة إلى سعد الدين وهبة وسهير القلماوي - بصفتهما مستشارين - لإبداء الرأي، فأيدا معاً قرار الرفض اعتماداً على وجود مادة في لائحة الرقابة تنص على منع أي عمل أدبي يمكن أن يسيء إلى علاقة مصر بأصدقائها الأساسيين، ورواية القعيد تسيء الى أميركا طبعاً. الاشتباك المفتعل بين دوري المثقف والرقيب وفقاً للمثلين السابقين وما يشبههما لا محل له، ما دامت الرقابة وظيفة إدارية في جهاز الدولة التي تضع القواعد، وتقرر بأبوة قدرية ما يجب أن يطلع عليه المجتمع وما يجب ألا يطلع عليه. لكل وظيفة قوانينها الموضوعة بداهة كي يطبقها الموظفون، ولا أحد يبقي على موظف غير مطيع. الاشتباك الحقيقي بين الدورين يحدث تطوعاً من المثقف خارج "محبس" الشرط السياسي، كأن يصف شاعر شاعرة وصفاً أخلاقياً لا يختلف عما يرد في تقرير رقيب مثالي، أو يبدي روائي ملاحظات رقابية نموذجية على نص روائي، فيلفت نظر الرقيب إلى ما غفل عنه أو تجاوزه. الرقابة على الكتب من أوضح أشكال الرقابة، وأكثرها كفاية في تطبيق التعليمات. فإذا أفلتت منها تجاوزات، فلا بد أن في الأمر ما يريب، مثلما تجلى في مشكلة رواية "وليمة لأعشاب البحر" والروايات المصرية الثلاث من بعد. فالإجراء الرقابي غير الرسمي ضد رواية حيدر، والرسمي ضد الروايات المصرية، كان من نوع الرقابة الصرفية، أي لصرف الأذهان في اتجاه قضايا خلافية وهمية بعيداً من قضايا الواقع المتردي. والخطر أنها رقابة توجيهية في الوقت نفسه، لأنها توجه أذهان متوسطي الموهبة والمحبطين إلى ما يرفضه النظام وما يثير الاهتمام، وبالتالي إلى طرق سهلة وسريعة للانتشار والصعود إلى الدوائر المضيئة. لا يتهاون النظام مطلقاً إزاء ما يمكن أن يغضب الجمهور أو يغضب من يستطيعون تحريكه من وراء ظهره، فالذي يصل إلى الحكم ويحكم بأساليب غير قانونية يبقى دائماً تحت وطأة الخوف من المعارضة، ومن سؤال الشرعية الدستورية لإدارة حكمه. لذلك تنهض فلسفة الرقابة السياسية على تصور مسبق لردود أفعال القطاع المحافظ من القراء. وينبني هذا التصور عادة اعتماداً على نماذج سابقة من ردود أفعال، نماذج قادت إلى أزمات فتبعتها فوراً إجراءات علنية صاخبة، لامتصاص الغضب وتأكيد أن حراسة الأخلاق العامة والدين جزء من بنية النظام. تمثل رواية صنع الله إبراهيم "تلك الرائحة" نموذجاً رقابياً مثالياً، بمعنى أنها قدمت لجميع الرقباء نموذج التعبير الأدبي الخلافي الذي يجب تعديله، أو حذفه كلية للحفاظ على عفة المجتمع كما يتصورها النظام المخدوع، لأن العفة مجروحة من البذاءات المتبادلة بحرية مرعبة في الشوارع المهملة، ومن السلوكيات غير الأخلاقية التي تحكم الآن حركة العلاقات الاجتماعية والاقتصاد والسياسة والتعليم، والثقافة بالتأكيد. صدرت "تلك الرائحة" للمرة الأولى في شباط فبراير 1966 عن دار الثقافة الجديدة مع مقدمة ليوسف إدريس، وصودرت مباشرة بأمر النظام لا القضاء، ثم أعيد نشرها بعد عامين تقريباً في الدار نفسها بعد حذف مقاطع كثيرة منها. لكن ما يلفت النظر أن صنع الله إبراهيم نفسه كان يعمل في دار الثقافة الجديدة محرراً مسؤولاً، ما قد يعني أنه كان رقيباً على نفسه، وأنه قام بمبادرة لتمرير نشر الرواية، بالموافقة على تعديل الأجزاء المعترض عليها رقابياً أو بحذفها تماماً. وتبدو أهمية هذا الإجراء في أنه حمل حكماً نقدياً من الروائي على عمله. فإمكان الحذف من دون أن يتأثر المضمون لا يعني سوى مجانية التعبير الفج وانفعالية استعماله، وهذا ما يبرر اتخاذ الإجراء نفسه بعد سنوات مع رواية غالب هلسا "الخماسين". أصدرت دار الثقافة الجديدة "الخماسين" في سنة 1975، وتم حذف أكثر من عشرين فقرة اتسم التعبير فيها بالفحش والبذاءة، مع ملاحظة أن الفقرات السياسية في الرواية لم تمس أبداً. ثم صدرت الرواية بعد ثلاث سنوات في بيروت بعدما قام هلسا بتعديل أجزاء ضخمة حذفاً وإضافة وإعادة كتابة. غير أنه يمكن بشيء من الصبر والمقارنة اكتشاف الفقرات المحذوفة من الطبعة المصرية. وما يجدر ذكره هنا أن الهيئة العامة لقصور الثقافة سلسلة آفاق الكتابة 1998 أعادت نشر الطبعة التي راقبتها دار الثقافة الجديدة، وترتب على ذلك وجود نصين مختلفين بعنوان واحد من رواية "الخماسين"، على رغم أن النص الثاني طبعة بيروت هو وحده ما يعول عليه، لأن غالب هلسا، بإعادة الكتابة وتهذيب الفقرات الخلافية أحال النص الأول إلى مسودة. هل يمكن نفي علاقة صنع الله إبراهيم بما خضعت له رواية "الخماسين"؟ ربما، غير أن النفي لن يلغي حقيقة أن المثقف عموماً والمثقف الرقيب خصوصاً حران في "محبس" شروط النظام السياسي. وتظل المفارقة الكبرى في إشكالية الرقابة كونها لا تتعرض للمواقف غير الأخلاقية، ويكاد ينحصر عملها في تعقب المفردات البذيئة. أما إذا كان المشهد الموصوف كله منافياً للأخلاق، كأن يشتهي رجل أخت زوجته، أو تمارس امرأة متزوجة علاقة جسدية مع غير زوجها، فلا اعتراض ما دام التعبير عن السلوك الفاحش تم بألفاظ طاهرة. ويتسق هذا مع الحكمة المعروفة: "افعل ما شئت شرط ألا يراك أحد". وهكذا يغض النظام الطرف عن نهب أموال الشعب في الواقع، وهدم مكتسباته السياسية والاقتصادية على مدى نصف قرن منذ ثورة تموز يوليو، مثلما يغض الطرف عن ذلك في مشاهد أدبية تفوق بذاءتها كثيراً ما يمكن أن تثيره لفظة سوقية أو تعبير فج، مما يكشف حجم التناقض في منطق الرقابة وقهرية أساس وجودها. فليست هناك حدود للمحرمات التي يمكن أن توجدها المرجعيات الأخلاقية والسياسية عند قراءة الأدب، والتسليم بوجود أي منها تسليم برقابة لا تنتهي. * ناقدة مصرية.