ماذا ترك العهد الروماني في الغرب وعلى وجه الخصوص في بريطانيا؟ ثمة امبراطور روماني اسمه هدريان Hadrian كان بنى مملكة في ما مضى، تحديداً في القرن الأول بعد الميلاد، بنى قلاعاً دفاعية وخنادق وأسواراً وحصوناً، ومن ثمّ بنى جداراً كسور الصين أراد من خلاله أن يحمي أرضه المحتلة، يردّ عنها الغزاة من أمثاله والبرابرة والطامعين في الأرض الانكليزية، وكان هذا الامبراطور الجبار يجبي ويأخذ الضرائب من الداخلين عبر بواباتها للمدينة. يبلغ طول هذا الجدار الصلد اثنين وسبعين ميلاً، يبدأ من مدينة Bowness وينتهي في مدينة Wallsend ولقد أُتيح لي أخيراً وعبر مساهمتي ضمن مشروع "كتابة على جدار" Writting on the wall الذي احتضنته مدينة Newcastle في الشمال البريطاني الذي ساهم فيه شعراء من جميع أنحاء العالم، أتاحت لي هذه السانحة أن أرى ما خلّفه المحتل من آثار جلى، هي الآن في يد أمينة، تهتم بتراثها ومواقعها الأثرية، لتضمها المتاحف والساحات، باستثناء الجدار الذي يعيش حرّاً وطليقاً في الهواء، خارج زجاج المتاحف. هأنذا أمام هذا السور الحجري أو "جدار هدريان" Hardrian,s wall الهائل... زرته أكثر من مرة ومن جهات مختلفة، فهو يقع في منطقة بالغة الجمال والفتنة، منطقة ينطق فيها السحر، وتتجلى دهشة المناظر الطبيعية، ها هوذا الريف الانكليزي من ناحية الشمال، حيث يتجسّد الألق ويتوزّع في الأخضر والأزرق، مراع وسهوب وسهول، تكتنز بروائح الريف النادرة، قشّ ومحاريث وأغنام وأنهار تنام وادعة على ضفافها الأشجار، بين هذا المناخ العابق بالدهشة وسحرها يخترق جدار هدريان هذه الكائنات الوديعة والأليفة، أنه الحجر التأريخي الحامل جمال الطبيعة، حجر مسنّ، ولكنّه شفاف، نما في مساماته زغب الحقول وأعشابها الرهيفة، فتحوّل على الحجر الى مخمل أخضر، ممتدّ في جسد الحجر وفي جلده الخارجي... هنا رأيت المعبد الروماني "معبد ميثراس" إله الشمس الذي صرع الثور بحسب الأسطورة الرومانية، والذي قتل في ما بعد في ظروف غامضة، رأيت هنا طقوسهم اليومية التي تحوّلت الى عادات وتقاليد تستخدم حتى يومنا هذا، ورأيت الى جانب جدار هدريان الذي يخترق الهضاب بحيرات صغيرة تحضنه وتحنو على حجارته، ومن بعيد تلوح شجرة مثيرة ووحيدة. تقف معانقة السماء في واد ذي تلتين ناحلتين، إنها شجرة روبن هود، لص الفقراء وظريفهم، ولن أنسى تلك الأيام التي كنت متيّماً فيها بفيلم روبن هود الذي كانت تعرضه سينمات بغداد في حقبة الستينات، الى جانب مسلسل عنه كان يعرضه تلفزيون بغداد مترجماً الى العربية، عندما كنت صغيراً أيام الأسود والأبيض الرومانتيكية. كان بمحاذاة الجدار سائحون، ومشاة يشدّون الحقائب على ظهورهم ويقطعون مسافات طويلة، متنشقين أنفاس الزمان وأريج الحجارة التأريخية. في مدينة نيو كاسل وضواحيها مثل سيكادينوم segedunum وأربيّا arbeia زرت ثلاثة متاحف كلها تمثل الزمن الروماني وتعرض ما لديها من لقى وإحفوريات... دروع فولاذية، قمصان من حديد، رماح وخوذ وصنادل من حديد أيضاً، انها عدة الفارس الروماني، وتعرض أيضاً صوراً وأفلاماً توضيحية الى جانب الحاجيات والمستلزمات اليومية للفرسان الرومانيين، كالنقود الحاملة صورة الامبراطور هدريان، وكذلك أواني الطعام والشراب وآلات الطحن والحرث وقطع الحلي والأزياء والأختام والزجاجيات وما شابه ذلك، لكن الذي لفت انتباهي هو تلك البطاقات البريدية التي كانت تبعث كدعوات لحضور الأعراس والاحتفالات الاجتماعية وخصوصاً تلك التي كانت تقيمها النساء في قصورهن، وثمة بطاقة لأحدهم يطلب من أمّه جورباً بمناسبة العيد، هذه الأشياء وغيرها تشير من دون شك الى أن الرومان كانوا يعيشون حياة رخية فيها الكثير من الرخاء والهناءة. عربي ولغة انكليزية إن زائراً عربياً مثلي، يرى اهتماماً وحرصاً بالغين، بكل صغيرة وكبيرة، من لدنّ المشرفين ومن أهل المدينة نفسها، كما إن أغلب هذه اللقى تتحوّل الى شارات ونقوش وحمّالات مفاتيح ودفاتر وأقلام يقتنيها الزائر والسائح للذكرى. واللافت ان مدينة نيو كاسل وهي من أعمال الشمال الانكليزي، تتكلم اللغة الانكليزية الصافية من دون أكل بعض الحروف وتضييعها في لغة سريعة مثل لهجة الكوكني السائدة في لندن والتي حتى أولادي يتكلمونها، طبعاً أستثني من هذا لغة المسرح والاذاعة والتلفزيون، ولمست من خلال احتكاكي ومساهماتي الشعرية في المدارس وفي الأمسيات المقامة في كل أنحاء نيو كاسل إنّ الناس أكثر ألفة وحميمية، وبحسب ظني ان هذا يعود بالدرجة الأولى الى وجود البحر والنهر الذي يخترق المدينة فضلاً عن السهوب والغابات التي تتمتع بها، مما يجعل منها مدينة للصمت والتأمل ومدينة للإبداع، إن شعراء وفناني نيو كاسل الذين التقيناهم وأصغينا الى أدائهم وأشعارهم أحسسنا انهم يتقنون فن الإلقاء الشعري الذي لم أصادفه في لندن، وثمّة وشائج وروابط تجمع في ما بينهم مما يجعل من هذه المدينة أن تمدّ جسوراً نحو الآخر لتصافحه بنداء قلبي، من أجل تكافل الإنسانية. وهذا ما عكسته حقاً الفعاليات والنشاطات التي اشتركت فيها نخبة من كتّاب نيو كاسل والكتّاب الوافدين من بقية بقاع بريطانيا والعالم، نشاطات أعطت ثماراً ثقافية، نتيجة اللقاء المثمر والدافئ، اللقاء الذي نظمته مؤسسة "فنون" في المملكة المتحدة، وأشرف عليه وحقّقه للوجود كظاهرة ثقافية السيد steve chettle، ثمة نصوص كتبت عن "جدار هدريان" أبرزها قصيدة W.H.Auden وعنوانها Roman Wall Blues وهناك نصوص لكتاب من الشمال كتبوا عن أهميّة الجدار ونصوص أخرى كتبت عن قلعة Vindolanda وسيأتي كتّاب من مختلف أنحاء العالم ليكتبوا عن هذه المعالم الأثرية الرومانية، وهذا ما حدث معي حقّاً، حين كتبت قصيدة بعنوان "جدار هدريان Hadrian,s Wall، وقصائد أخرى، مستوحاة من جماليات المكان وتحوّلاته الميثولوجية، كقصيدة "معبد ميثراس" و"هيكل عظمي في متحف مربيّا" وما شابه من قصائد تستوحي المناخ الأسطوري الزماني والمكاني. في جولاتنا شاهدنا أماكن لا تحصى، كان الرومان قد تركوا بصماتهم وأحلامهم ورؤاهم وأنفاسهم عليها، وأقيمت إجلالاً لذلك الماضي البعيد غالبية الفعاليات والنشاطات، قرب الجدار وقرب القلاع والحصون الرومانية، فأمسية سيكيدينوم Segedunum على سبيل المثال حضرها حشد ملأ القاعة، وأصغى بلهفة وصمت مدهشين للشعراء وهم يتلون أشعارهم، كانت أمسية حافلة بأنوار الإبداع، أما التاريخ فكانت أبّهته تتلألأ في تلك القاعة، لقد قرأت قصيدتي "جدار هدريان" بالعربية، قبل ترجمتها على يد الشاعرة المغربية حفصة العمراني Hafsa Alamrani ووجدت ما لم أتوقعه من الجمهور الذي جاء يهنئني على ايقاع القصيدة وموسيقيتها، ولقد قرأ شعراء مميزون في تلك الأمسية، وكان لصدى القائهم وقع فاتن من لدن الحضور، وهذا ما جسّده Bill Herbert والفنان الشاعر Peter Mortimer والشاعرة الرقيقة Linda France، والى جانب أمسية سيكيدينوم، كانت هناك أماس أخرى أيضاً، أقيمت في أماكن مختلفة، كأمسية Katrena Porteous التي حلقت فيها بقصائد ذات نبرة أليفة، ألّفت بيننا نحن الحضور في تلك الحانة الريفية صحبة المساء والسهوب والأحجار الغسقية التي انصتت بود الى الموسيقي صاحب القربة، إنها "موسيقى البايب" القروية الايرلندية. هذا فضلاً عن أمسية الشاعرة الرومانية دينسا كوميكو Denisa Comaeco التي أقيمت في قرية وديعة حضرها محبو الشعر والأدب والفن، حيث أنشدت فيها دينسا عدداً من قصائدها الجميلة. وإذا تركنا الأماسي الشعرية، وانتقلنا الى مشاركاتنا في المدارس، فإنها كانت قد شكّلت تجارب في غاية الأهمية، فبالنسبة إليّ لم أقرأ من قبل لطلاب مدرسة ابتدائية البتة، فقد سبق لي القراءة في مدارس متوسطة واعدادية وجامعية في فرنسا وبولندا وغيرهما، كانت تجربتي الجديدة والأولى في مدارس نيو كاسل وضواحيها تجربة فريدة وآسرة تحمل قدراً كبيراً من البهجة، قرأت بالعربية والانكليزية، وكان الأطفال مندهشين لما أقول، سابحين في منحدرات حلمية، كانوا في غاية الذكاء والعذوبة. أعاد الأطفال إليّ حقاً الطفولة والشعر معاً، وكما قال الشاعر الفرنسي شارل بودلير: الشعر هو الطفولة التي وجدتها مرة ثانية.