وصلت القوى السياسية الرئيسية في السودان منهكة الى بوابة مشاكوس إلى حد جعلها تعجز عن جر نفسها الى كرسي في قاعة المفاوضات لفرط خوار قواها. وتساوى في ذلك زعماء الأحزاب المعروفة من الصادق المهدي ومحمد عثمان الميرغني الى حسن الترابي ومحمد ابراهيم نقد زعيم الحزب الشيوعي المختفي منذ سنين. وزاد أمرهم عسراً ان المفاوضات تجري بين حملة السلاح الأقوياء، وفاقمت أزمتهم لامبالاة شعبية يريدون منها السند وحماسة دولية لصيغة جديدة في السودان تحفظ النفط وحقوق الانسان إذا أمكن. "السودان الجديد" هي العبارة المفتاح في خريطة التحالفات السياسية الجديدة، لكنها عبارة فقدت معناها من كثرة الطرق، وباتت تعني كل شيء إلا ان يكون السودان جديداً تماماً. وهي في الأصل مفارقة لفظية تخفي خبثاً سياسياً ودهاء طرقت حكومة الانقاذ بابها، طالبة التخلص من الطائفية. وهمّ بها جون قرنق ردحاً من الزمن طلباً للقضاء على السيطرة العرقية والدينية. واستظل بها مثقفون كثيرون في غياب المخرج الواضح والرؤية السليمة. وليس من دليل أفضل إلى ضياع المعنى وبقاء النغمة اكثر من خروج كل من اتفق مع قرنق على أمر أو نصف أمر، الى السودانيين مفتتحاً بيانه بالاتفاق مع زعيم المتمردين الجنوبيين على "السودان الجديد". "السودان الجديد"؟ سيكون السودان جديداً بعد اكمال الاتفاق، لكن السؤال ماذا نعني ب"السودان الجديد"؟ فهذه العبارة حمالة أوجه. التحالفات القائمة الآن تضم أخلاطاً لا تجمعها وحدة منهج ولا غاية، إنها قوى واحزاب وجدت نفسها مقصاة ودفعت دفعاً الى تجمع المعارضة، واخرى اصبحت ملحقات للحكومة. وليس صحيحاً ان التحالفات القائمة الحكومة ومعها المنشقون عن الحزب الاتحادي وحزب الامة وأنصار السنة وبقايا عهد نميري من جهة، و"الحركة الشعبية" ومعها بعض أبناء الجنوب والمناطق المهمشة وأحزاب الاتحادي والشيوعي وشتات القوميين واليساريين هي المعبر عن خريطة السودان السياسية. اذ ان هناك حزب الأمة والمؤتمر الشعبي وغالبية طاحنة من شعب السودان لا يجمعها إطار وليس بينها مستشار. هذا المشهد جعل المنطق لقوة السلاح والحوار لمن حملوه، ولم يعبأ وسيط جاد بدفع الجميع إلى طاولة المفاوضات، واكتفى بالمتحاربين. وبلغت به الجرأة على الحلفاء والواقفين فرادى أن دعاهم إلى مشاركة بصفة استشارية من خلال حملة البندقية. وبالطبع رفض حلفاء قرنق في التجمع وأحزاب المعارضة الأخرى العرض. ويبدو مجانباً للحقيقة من يأمل بأن تخرج تحالفات سياسية ذات قيمة من رحم مفاوضات مشاكوس، لأنها تعقد أصلاً بين الاقصائيين الاستئصاليين المحاربين من طرفي الطيف السياسي السوداني. التحالف الأول الممكن هو بين البشير وقرنق وأساسه الاتفاق ومبتغاه نتيجة متفق عليها في الاستفتاء على تقرير المصير يقولان إنها الوحدة. ولم يخف البشير رغبته في مثل هذا التحالف الذي يقود "السودان الجديد"، ويترك للبقية حرية المعارضة. لكن حركة قرنق ربما تحدثت عن هذا الأمر باستحياء خفراً من حلفائها الحاليين الذين ستنتهي العلاقة عملياً معهم يوم توقيع الاتفاق. عقبات وتحديات مسيرة مثل هذا التحالف ستكون محفوفة بعقبات وتحديات أولها اختلاف الهدف واللغة والجمهور. وثانيها ما تولده السلطة من صراعات وطموحات محقة وأخرى ظالمة. بإمكان مثل هذا التحالف أن يضيّق على الباقين وعموم الشعب بأكثر مما يوسِّع فهو سيستخدم السلطة ضد الآخرين. والسلطة أهم من الحزب والانتماء في المجتمعات قيد البناء. وسيستخدم الأمن القومي لتصنيف الموالي والمعارض والممنوع والمسموح فهو الوصي على تنفيذ الاتفاق والقائد في رحلة السنوات الست. وليس أمام بقية القوى، باستثناء من يحالفهم الحظ في الالتحاق، سوى الوقوف في صف المعارضة. وإذا كانت الحكومة ستصبح حكومتين وسيادتين فإن أطراف المعارضة ستحصى بالعشرات. وعلى رغم أن القوى الأخرى الأمة والاتحادي والمؤتمر الشعبي ذات رصيد شعبي واسع، إلا أنها يجب أن تحبس أنفاسها قبل تأكيد ذلك، لأن شعب السودان المسيس بالقريحة بدأ يتعلم كيف يتجنب الخوض في السياسة. كما أن سنوات البشير ال13 المريحة في هذه الناحية عكست عزوفه عن العمل السياسي النشط، حتى أنه عِيبَ على التجمع أنه لم ينجح في تنظيم تظاهرة مهمة لسنوات، على رغم أن المشاركة في تظاهرة أمر عادي عند أهل الخرطوم مثل جلسة أنس في مساء صاف. قد لا تكون الصورة بهذا البؤس إذا استمعنا الى خطاب المفاوضين المليء بكل أمل في السلام والنماء والرخاء والعدل والمساواة ورد المظالم واصلاح الاختلالات. لكن هذا الخطاب ذاته يبدو خاوياً من أحاديث الحرية والديموقراطية والمشاركة إلا لِماماً ولا دليل أبلغ إلى ذلك من أن الاتفاق الاطاري الذي وقع عليه بالفعل لم يجد مكاناً لكلمتي الحرية والديموقراطية فيه سوى مرة أو مرتين. وبالطبع لا تزال الفرصة سانحة لتحقيق اتفاق نهائي تتحدث ديباجته عن الحرية والديموقراطية ومشاركة الجميع بوتيرة اكثر تكراراً. ويقضي نصه بانتخابات حرة مشهودة وقوانين أمنية تخلو من عبارات الاعتقال التحفظي لأشهر وصلاحيات الاجهزة الامنية خارج القانون، وتدخل محلها عبارات مثول الانسان أمام قاضيه الطبيعي وحقه في التعبير والتنظيم والكرامة. المعارضة الحزينة! وكان مشهد التجمع المعارض حزيناً وهو ينتظر قرنق في اسمرا لابلاغه نتيجة مساعيه من أجل اشراك الاحزاب في المفاوضات. وكان الرد مهذباً وبليغاً إذ بدأ بنصيحة غالية للحلفاء لفعل شيء حتى يعرف العالم انهم موجودون. وخرج الاجتماع بعد ضغط اريتري لمنع انفضاضه، بقرار غريب هو التفويض إلى قرنق النضال بالنيابة عنهم، بعدما تعذر اشراك التجمعيين نتيجة رفض الحكومة والوسطاء. وليس حال حزب الأمة بأفضل من ذلك، اذ ان زعيمه سارع الى "الترحيب الحار" والحديث عن "الفرصة السانحة التاريخية التي لن تتكرر"، وبدا مفكراً ومراقباً أكثر منه زعيم حزب يمثل مصالح نحو أربعة ملايين ناخب حتى العام 1986. وبالطبع لم يرحم أحد ذلك الموقف النبيل، فشقت الحكومة بدهاء حزبه وأدخلت المنشقين تحت جناحها وأجزلت لهم في الوزارات الى حين. أما حزب الترابي فبدا عاجزاً منهكاً مقطوع الرأس والذيل، فهو لم يتمكن من الخروج بموقف قوي في المعارضة على رغم تعاطف قرنق معه ومطالبته باطلاق زعيمه. ولا يقل الواقع السياسي الجنوبي تعقيداً وتناقضاً عن واقع الشمال ففيه حلفاء الحكومة وكل حكومة. وفيه معارضو المعارضة قرنق وكل معارضة. وفيه أقوام لم تحمل السلاح يوماً لكن ذلك لا يلغي ارادتها، واقوام التمست السند والعون في أخوة الديانة في الغرب ولها كلمة ووزن. لن تكون مسيرة قرنق سهلة في السيطرة على مقاليد الجنوب، وإن كانَ الزعيم الذي يختصر الشعار والهوية بالنسبة إلى الجنوبيين أصحاب الظلامة التاريخية. وهو بحاجة الى تحالفات وتطمينات لقبائل وسياسيين طموحين لن يمانعوا في اختراقه بالتحالف مع صاحب غرض في الشمال له مصلحة في الاختراق والضرب في موجع. لا أحلاف قوية خريطة بهذا الشكل لا تنبئ بأحلاف قوية ولا حتى حيوية سياسية تذكر بتاريخ السودان المليء بلا شيء مثل امتلائه بالسياسة الى حد الفيضان. قد يكون أمام الحكومة وقرنق مركب سهل وإبحار مريح اذا كان الاعتداد بالقوى السياسية هو الفيصل، لكن أمامهما رحلة صعبة ورياحاً عاتية، في زمن يندر الصدق والوفاء بالعهود والاخلاص في الأحلاف. وإذا كان قرنق حمل البندقية من أجل "سودان جديد" الغلبة فيه للمطحونين والُمهَمَّشين كما تحلو له تسميتهم، فعليه ألا يتوقع السند في صناعة دولته الحلم ممن ظل يردد طويلاً انهم الطاحِنون المُهَمِّشون. وإذا كانت الحكومة ترى في الاتفاق مخرجاً من حصار دولي وفرصة للنماء والبقاء لاطول فترة ممكنة، فعليها ان تتذكر ان أول الخارجين من نافذة الاتفاق هو دعوتها الى "المشروع الحضاري" ومعه سندها الاسلامي الذي اتكأت عليه. قد تبقى الحكومة في السلطة زمناً بسبب الاتفاق الانجاز، لكنه بقاء من أجل البقاء فقط. ولا تزال أمام المهمَّشين الجدد الاحزاب فرصة في الفاعلية والتأثير في مسيرة البلاد اذا استجمعوا قواهم وراجعوا طرائقهم ومُكِّنوا من صناديق الاقتراع. ولن يكون الطريق الى الصناديق سالكاً لأن الحلفاء الجدد ليسوا في عجلة من أمرهم لتسليم سلطة وصلوا إليها على ظهور الدبابات وتحت قعقعة السلاح. ليس هناك ما يمنع من تصديق وعود قرنق وقادة حركته المتكررة بالسعي الحثيث من اجل ضمان مشاركة الاحزاب في أي اتفاق نهائي، لكن ذلك لا يبدو كافياً حتى يتجه قادة الاحزاب الى بيوتهم ويترقبوا نجم الطالع الذي سيهل من الجنوب. ما لم تنهض هذه القوى الآن وهي ذات غالبية شعبية فإن حقوقاً كثيرة ستضيع لأن ليس وراءها مُطالب. * من اسرة "الحياة".