يوم أرادت أمي أن تدخل زمن الحداثة أمرت بنقل سريرها النحاس الكبير الى قبو دارنا لتضع مكانه سريراً من التنك يشبه الأسرّة الخشب الحديثة... لكن أمي بقيت تغمس لقمة الخبز بالفول والزيت وتأكلها بيدها. ويوم أراد الشعراء العرب أن يدخلوا زمن الحداثة تخلّوا عن بحور الخليل بن أحمد الفراهيدي وكسروا أوزانه. نسوا أنّه استوحاها من الرنين المنبعث من الأيدي التي كانت تطرق، بجواره، النحاس... وراحوا يكتبون شعراً يشبه بتحرره ما يكتبه الشعراء الآخرون، المحدثون، وبقوا يبحثون عن الموسيقى في ايقاعات تخونهم. أما الباحثون والنقاد الساعون الى تعريف الحداثة فقد أقاموا برجاً لبابل كان معنى الحداثة فيه يتناقض ويتمزّق تناقض واقعنا وتمزّق روحنا وهي لا تعرف كيف تصنع متغيّرات التاريخ وتعيش، بهناء، زمنها الحاضر. أمس اصطحبت حفيدي القادم من أميركا، المتلعثم بنطق لغة أبويه العربية، الى مدينة صيدا، القديمة، التي شاءت مؤسسة عودة ان تعيد صوغ أحد شوارعها وتُحيي زمنه الذي مات. ما يقارب مسافة كيلومتر واحد صار طريقاً يترجم كيفيّة أن يصبح المكان حديثاً من دون ان يفقد ذاكرته وزمنه الخاص، ومن دون أن يتخلَّى عما اختزنه الفضاء من همسات الماضي وظلال البشر الراحلين. كان الشارع يشبه نفسه ويحتضن تاريخه، لكنه كان يتنفس رائحة الحياة المشرّبة بعطر النظافة في حين كان ما يحيط به لا يزال مرمياً في ماضيه ويعاني تشوهه. وهو أمر حوَّل حداثة الشارع الصغير الى فرجة وجعل من علاقتنا به غربة. كان حفيدي يتفرّج. وكان السياح الأجانب يتفرّجون وأنا كنت مثلهم أتفرّج. غير أنني في المساء كنت وحدي. وكنت أشعر بذلك التمزّق الذي يقسم روحي. كنت وحدي أرى الى هوّةٍ تفصلني عن ذلك الماضي الذي عشته في المدينة القديمة، والذي لم يكن لي أن أعبره كما يحق للبشر أن يعبروا ماضيهم هادئين ينمون ويتحولون في زمنٍ ينمو ويتحول. وتساءلت مثل كثيرين: تلك الهوة، تلك الفجوات، كيف نردمها؟ كيف نعيد صوغ حاضرنا لنعيش حداثته لا مثل فرجة، ولنجعل من علاقتنا بهذه الحداثة لا مجرّد غربة؟