كيف قدّم الناقد منير العكش الشاعر محمود درويش الى القراء الأميركيين؟ هذا السؤال تطرحه المختارات الشعرية الصادرة عن جامعة سيراكوس في نيويورك تحت عنوان The Adam of Two Edens. ولعل المقدمة الطويلة التي وضعها العكش للمختارات الشعرية هي اشبه بالمدخل النقدي الى عالم الشاعر الفلسطيني ولغته. هنا مقاطع من المقدمة نقلتها الى العربية كنده العكش. لعل أبرز عذابات الشاعر محمود درويش، كما لاحظتها على مدى أكثر من ثلاثة عقود، كانت وماتزال مع جمهوره ومحبيه الذين يريدون أن يمسكوا بأصابعه حين يكتب الشعر. وعلى غير ماهي الحال مع الشعراء الفلسطينيين الآخرين فإنهم يرون في درويش رمزاً وطنياً يحيطونه بهالة أسطورية، ويعتبرونه شاعر الشعب الفلسطيني المخلَص. إنهم يحفظون شعره، وينشدون كثيراً من قصائده في حقولهم ومدارسهم ومسيراتهم ومخيماتهم الشقية. جمهور غيور في الغالب" يريده له وحده: ينكر عليه طبيعته الإنسانية وينسى أو يتناسى أنه شاعر وأنه بشر، فيحاسبه ويقسو عليه إذا ما "ضل" عنهم إلى عواطفه وهمومه فكتب عن مرضه أو ألمه أو حبه. وهم بحساسياتم الشعرية المتباينة والمتناقضة يريدون أن يحكموا قبضتهم على خياله الجامح ليكتب الشعر وكأنهم يملونه عليه. عندما أصدر محمود درويش مجموعة "سرير الغريبة" التي تبدو في قراءتها السطحية الأولى أنها ليست أكثر من قصائد حب هاجمه روائي أكاديمي من أصدقائه المخلصين واتهمه بأنه تخلى عن شعبه وانسحب إلى قوقعة همومه الفردية. ثم خلص هذا "الرفيق" القديم إلى أن الشاعر على ما يبدو يريد أن يقول للعالم: "لتذهب فلسطين إلى الجحيم. إنني الآن ملك نفسي"! في صيف 1967 التقيت محمود درويش لأول على صفحات مجلة "شعر" اللبنانية التي أسسها وأشرف على تحريرها يوسف الخال. كان جرح هزيمة حزيران يونيو في ذلك الصيف نازفا وموجعا. وكانت الصفحات الأدبية اللبنانية تتهافت على نشر ما صار يعرف لاحقاً بشعر المقاومة الفلسطينية. في عدد ذلك الصيف المأسوي نشرت مجلة "شعر" - وكانت مجلة أدبية رائدة- أربع قصائد لمحمود درويش وقدمته لقرائها بأنه "شاعر فلسطيني شاب يقيم في فلسطينالمحتلة بين بيته والسجن. تسربت إلينا منه هذه القصائد الأربع". مجرد نشر قصائد درويش في هذه المجلة الشعرية الرائدة كان له دلالة كبيرة لدى معظم المعنيين بتطور القصيدة العربية الحديثة الفتية، وبتطور النجمين الساطعين اللذين يدوران حول بعضهما في سماء ذلك الليل: درويش وشعر المقاومة الفلسطينية. وليس لدي ما أخفيه اليوم بعد أن انقضت ثلاثة عقود، فقد كنت ومازلت أعتقد أن شهرة درويش القياسية في تلك الفترة كانت تعود إلى ظروف وشروط لا علاقة لها بالشعر. كانت معظم قصائده التي أحبها الناس ورددوها تتصف بالخطابية وتصخب بالشعارات وتفتقد إلى مقومات القصيدة. لكن صوت درويش الصاعد المتألق كان أشبه بدواء سحري للجراح التي أصيبت بها النفس العربية بعد الهزيمة. بعض "نقاد" تلك المرحلة ذهبت بهم الحماسة للشاعر الشاب فنسبوا شعره إلى "الواقعية البطولية" أو الملحمية، وبعضهم زعم أنه يؤسس تياراً جديداً في الشعر العربي الحديث. أما شواهدهم التي قدموها لقرائهم فكانت خير دليل على أن مزاعمهم كانت سابقة لأوانها. معظم قصائد درويش الأولى كانت متأثرة ببعض نجوم الشعر من عرب أو غير عرب مثل نيرودا، وحكمت، وماياكوفسكي، والسياب، وقباني، بل ببعض الأسماء الأقل شهرة مثل الشاعر الفلسطيني الرائد راشد حسين. ولم يكن من السهل في تلك الأيام التأكد من تأثير الشعراء الإسرائيليين من مثل حاييم بياليك أو يهودا عميخاي أو غيرهما على شعر درويش الذي كان يستخدم بعض الرموز والأساطير اليهودية. لكن المفارقة الساخرة التي لا يمكن تفسيرها هي أن جمهور درويش ونقاده غضوا الطرف في تلك الأيام عن هذه الرموز والأساطير التي هضموها واعتبروها جزءاً لا يتجزأ من مفهومهم لشعر المقاومة الفلسطينية! كان نشر تلك القصائد الأربع في صدر صفحات مجلة "شعر" اعترافاً واضحاً من هؤلاء الذين ظنوا أنفسهم رواد الشعر العربي الحديث بتطور شعر محمود درويش وقابليته لأن يلتحق بأوليمبهم المقدس. وهذا ما يشبه حال أي شاعر أميركي ينشر للمرة الأولى في مجلة أدبية مرموقة مثل "بويتري" أو "غراند ستريت" أو "ذي نيويوركر". لكنني لا أريد أن اعطي انطباعا كاذبا عن تقويمي لمجلة "شعر" ومؤسسها يوسف الخال، أو أن أبني أحكاماً عامة على نشر هذه القصائد الأربع. فعلى رغم أن صدور هذه المجلة الأدبية أسهم في كسر الأرثوذكسية الخليلية، وفي تشجيع القصائد الاختبارية، ودعم الحداثة الشعرية بكثير من الترجمات، فإن مواهب هذه الحركة - وباستثناءات قليلة أبرزها أنسي الحاج وفؤاد رفقة - لم تكن بحجم الادعاءات والأسئلة التي طرحتها المجلة. كانت رحلتهم تمضي في عكس الآتجاه الذي تمضي فيه رحلة محمود درويش. وكان هذا التباين يتجلى في شكل خاص في لاعادية الخيال الدرويشي وفي رحابة المدى الثقافي والإنساني لعوالم همومه. كانت "الحداثة" لديهم ملتبسة بالصرعة. أما شعراؤهم فإنهم استهلكوا طاقتهم في صياغة أشكال كاليدوسكوبية شاعت في Tel quel وما كان يعرف بالشعر الكونكريتي، وهي أشكال كانت اللعبة المفضلة لدى شعراء عصر الانحطاط العثماني. كان الواحد منهم يعتقد أنه لا يستطيع أن يكون شاعراً حديثاً إلا إذا أعطى روحه للشيطان. وعلى غرار جيل شعراء "البيت" Beat الأميركيين فإنهم حاولوا أن يستلهموا مفاهيم حركة الرسم الأدائية Action Painting. كان يوسف الخال يحاول عبثا أن يبعث شبح تي. إس. إليوت في بيروت فقد كانت هنالك مقبرة كاملة تغص بأشباح إليوت المزيفة. إن أهمية يوسف الخال بالنسبة لشعر تلك المرحلة تشبه إلى حد بعيدأهمية الشاعر لورنس فرلنغتي في الولاياتالمتحدة. لقد كانت له آراء حدسية ثاقبة في الشعر والشعراء. أذكر مرة أنه قال لي: إن محمود درويش سيصبح شاعراً كبيراً إذا لم يستجب لذوق الجماهير ولم يساومهم على موهبته. وأذكر أيضاً أنني ذكرت ذلك لمحمود درويش في أحد لقاءاتي معه عام 1973، أي بعد أن انقضت ست سنوات على نشر قصائده الأربع في "شعر"، وعبرت له عن رأيي في علاقته الفريدة مع جمهوره. لقد سألته: "تصور أنك ولدت في مكان آخر غير الوطن المحتل، ألن يكون لك وزن آخر في الشعر العربي"؟ وأجاب: "أدمت الاعتراف بأن المصادفات أو الظروف "الصدفية" أسهمت في خلق ما أسعى دائماً إلى التحرر منه. لا أريد أن أطفو على الصدفة. أريد أن أتجاوزها بقوة أخرى، قد تكون موجودة لدي وقد لا تكون. لكنني أول متضرر من حصري في هذه المصادفة، وأول متمرد عليها وأول من أعلن الاعتراف بها. إنني أطمح إلى أن أصدق بأن المصادفة لم تخلقني وحدها، لكنها عجّلت عمر وصولي إلى الناس. لقد سهلت عليّ تقديم نفسي وتنميتي. وهنا تلاحظ مفارقة غريبة: إنني مدين للمصادفة لكنني متمرد عليها". - وكيف؟ "بالبحث عن القوة الذاتية الموجودة فيّ، إذا كانت موجودة فعلاً. أي بالنسف المستمر للعامل الخارجي الطارئ أو الصدفي، وبتعميق الجوهر الباقي". منذ ذلك اللقاء الذي مضت عليه الآن ثلاثة عقود ومحمود درويش يعمل بذكاء ومن دون هوادة على تفكيك ذلك العالم العرضي وتعميق الجوهر الباقي، ويسعى إلى ترويض حماسة جمهوره لكثير من قصائده الأولى. إننا لو قرأنا مجموعاته التي أصدرها في الستينات ثم انتقلنا مثلاً إلى بعض مجموعاته الجديدة مثل "لماذا تركت الحصان وحيداً" أو "أحد عشر كوكباً" أو "أرى ما أريد"، فإننا نلاحظ، ومن دون عناء أن مسيرة محمود درويش كانت فعلاً تفكيكاً للعامل الخارجي الطارئ وتوكيداً على "الجوهر الباقي". في بيروت في الأيام الأولى من زيارته الأولى لبيروت، عام 1971 التقيت محمود درويش في شقة الشاعر السوري أدونيس. كنا خمسة، وكان درويش - ضيف الشرف - يجلس أمامي. أعصابه، كالعادة، تنبض وتهمهم. شاب نحيل طويل ذو حضور طاغ، تتألق عيناه ببريق عيون النمر. يتكلم برشاقة النحل، ويبهر بحديثه وانفعالاته الجسدية المرافقة. إنه يصغي طويلاً ويبالغ في التواضع لمحدثه حتى ليبدو فاقد الحيلة، حائراً، زاهداً ذا ملامح مأسوية ساحرة. وفجأة تكتشف أن هذا الاستسلام الموقت ليس إلا واجهة لشخصية قوية ساخرة تنضح بالمرارة. وهذا أيضاً ما تلاحظه في نثره الخاطف اللماح وفي حديثه ومناظراته النارية. عندما ألح ياسر عرفات على محمود درويش أن يقبل منصباً وزارياً، وطال بهما الأخذ والرد قال عرفات: "ما الضرر من ذلك؟ ألم يقبل أندريه مالرو أن يكون وزيراً في حكومة شارل ديغول"؟ ومن دون تردد أجارب درويش: "بين هاتين الحالتين هنالك ما لا يقل عن ثلاثة فروق أساسية. أولاً، إن فرنسا ليست الضفة الغربية وغزة. وثانياً، إن ياسر عرفات ليس شارل ديغول. وثالثاً، إن محمود درويش ليس أندريه مالرو. نعم! قد تعتقد أن هذه فروق هامشية، لكن إذا قدر الله وصارت فلسطين بقوة فرنسا، وتحول ياسر عرفات إلى شارل ديغول فلسطيني، وبلغت أنا مبلغ أندريه مالرو فإنني عند ذلك أفضل أن أكون جان بول سارتر"! لكن ملكة النقد الذاتي عند درويش أشد مرارة من بديهته النارية وأحاديثه اللاذعة الساخرة. ذات لقاء، عندما كانت ملاحظاتي على شكل قصيدته استفزازية فظة قال: "إذا كنت تعترض على شكل قصيدتي، أو تعتبر أنني لم أجد شكلي بعد، فإن ذلك لا يعود إلى نقص في نيتي، وإنما يعود إلى عجز في تجربتي الإبداعية"!! مثل هذا التطرف في النقد الذاتي الذي يتفرد به درويش بين من أعرفهم من شعراء المرحلة جعله قاسياً على نفسه وشعره. لكن ذلك أعانه، ويسر عليه مهمة التمرد على النجاح السهل وعلى النجومية التي أدركته قبل الأوان. ولقد عجل ذلك بانتشاله من شاعر عادي يستلهم تجارب غيره أحياناً، ويعتمد على شيء من الخطابية والمباشرة أحياناً إلى شاعر إنساني يتمتع برؤيا نادرة، ويعتمد تقنية معقدة غير معهودة لعجن تلك الأمداء الكونية من العواطف الإنسانية وصوغها في قصيدة كريستالية متألقة. إن القصيدة العربية بين يديه، بل إن جوهر القصيدة نفسها يتجه نحو حياة جديدة. وتسمو قصيدة درويش بتفاصيل المأساة "المحلية" إلى آفاق إنسانية شاملة. إنها تعبر عن مشاعر عزيزة على صميم وجودنا، وعن تلك الأعماق الحميمية التي تضطرب في نفس كل من عانى الاغتراب والنفي على وجه هذه الأرض. إن قوة هذه القصائد تكمن في أن كل "معذب في الأرض" يرى نفسه في مرآتها، وأن كل كلمة فيها مستمدة من ذاكرة إنسان مفجوع. موهبة النقد الذاتي التي تحاول أن تسيطر على دفق خياله تضطره في بعض الأحيان إلى أن يتريث فترة طويلة من الزمن قبل أن ينشر قصائده. وهذا ما يثير القلق الشديد لدى بعض أصدقائه الذين يرجونه ألا يفرط في استخدام المقص. إنني، وعلى مدى أكثر من خمس وثلاثين سنة من مواكبة رحلة درويش الشعرية صرت على قناعة بأن أبرز محطات حركة الخلق لديه يتجسد في قدرته العنيدة على التغير والتطور، وعلى إصراره على أن يخلق الصيغة التي تتجاوز السائد والعادي بل والناجح أيضاً ... خلال رحلة التطور التي عاشها محمود درويش وضع للقصيدة العربية نماذج ضرورية جداً لانقاذ القصيدة الحديثة مما وصلت إليه من تناقض مع منطلقاتها وأهدافها، لمصالحتها مع الحداثة أولاً، ومع الشعر ثانياً. لكن هذه المغامرة لم تعكف على نرجسية النفس وعبادة الذات، ولم تنكب على صناعة صور جمالية عبثية أو تجريب أشكال اختبارية بهلوانية، أو ترديد ما شاع من غرام شعاري شكلي بالضوء والعوالم الصوفية، بل ركزت أولاً وأخيراً على بلورة هموم الإنسان فيما يناسبها من أشكال ويعينها على أن ترحل من جديد إلى قلب كل إنسان. بالنماذج الجديدة مضى بنا درويش إلى كثير من العوالم المفقودة في التقليد الشعري عموماً وفي الذاكرة الفلسطينية خصوصاً. وهذا ما يتضمن تلك العوالم التي استودعتها الذاكرة الجمعية في خضم بعض الحكايا والروايات التاريخية والقصص الشعبية أو تلك التي تحدثت عنها بعض الملاحم والأساطير. وخلال بحثه عن هذه العوالم المفقودة التقط درويش المقومات اللازمة لوصل الحاضر بالماضي وبناء الزمن الشعري الجديد للقصيدة الحديثة. كان يصغى للنداء الصاعد من تراب المنفى ومن روح المنفى. قصائد درويش تشير إلى وقائع محاذية" تشير إلى أمكنة حقيقية لا تختلف عن مدينة نكونشتنكه، وإلى بشر حقيقييين لا يختلفون عن شعب كونوي. إن مثل هذه الإشارات تخبرنا الكثير عن آمال بشر مثلنا، عن مخاوفهم، عن إنجازاتهم ونجاحاتهم وعن هزائمهم وتجارب حياتهم، وتضيئ في تلك العتمة الحالكة من وعينا الذي شوهته وسائل إعلامنا وبعض كتاباتنا الأكاديمية ما عاناه هؤلاء البشر من عذابات. ولعل أقدم "عالم مفقود" نذكره أكثر من غيره من العوالم المفقودة نهائياً هو "جنة عدن"، جنة البراءة الإنسانية البدائية. هذا الفردوس الذي نعتقد أننا فقدناه مرة واحدة فقده درويش مرتين: "... أنا آدم الجنتين، فقدتهما مرتين/ فاطردوني على مهل، / واقتلوني على مهل/تحت زيتونتي". لكن الفردوس المفقود ليس مجرد مكان، إنه فكرة أيضاً. إنه فكرة تتضمن الحق في أن يعود إليه كل من فقده أو طرد منه. إنه فكرة ما تزال تضرم حنين العودة في كل من آمن بهذه الفكرة. لقد عانت إنسانيتنا من ضياع جنة عدن. أما حين تضيع فكرة الجنة نفسها فإن الحياة تصبح جحيماً. وهذا الضياع يشكل واحداً من المحاور الأساسية في شعر محمود درويش: "منذ طردتِ ثانية من الفردوس عالمنا تغير كله، فتغيرت أصواتنا. حتى /التحية بيننا وقعت كزر الثوب فوق الرمل". وحياة درويش نفسها بحث لا نهائي عن العالم المفقود، سواء كان وطناً أو شكلاً شعرياً أو كان استعارة لكل ما يتمناه ويسعى إليه الإنسان .... وعلى غرار نكونشتنكه المدينة الهندية المطمورة تحت مدينة واشنطن فإن قرية البروة التي ولد فيها درويش وعاش فيها طفولته الأولى قد محيت كذلك من الخريطة ودرست وسويت بالأرض. لم يبق الغزاة منها أي أثر ]وقد علمت أخيراً أنهم اعتدوا على مقابرها وأرادوا حراثتها بالجرافات[. فعندما احتل الإسرائيليون فلسطين دمروا معظم ما وجدوه فيها. وعلى رغم ذلك فإنهم يزعمون أنها كانت صحراء وأنهم أحالوها إلى جنة. ولعل القائد العسكري الاسرائيلي موشيه دايان خير من عبر عن تحويل هذه الصحراء الفلسطينية إلى جنة إسرائيلية حين قال: "لقد جئنا إلى هذا البلد الذي كان يسكنه العرب وأردنا أن ننشئ دولة عبرية فيه.