إذاً كان "مبرراً"، أي مفهوما، ذلك العداء الذي تبديه الإدارة الأميركية حيال المحكمة الجنائية الدولية، بعد أن اتضح أن العداء ذاك لا يصدر عن مخاوف من طبيعة نظرية، أو عن مجرد احتمالات وحالات افتراضية بعيدة، وإن لم تكن مستبعدة، بل عن توجس من "مخاطر" ماثلة، أو وشيكة، أو واردة إلى أبعد الحدود. والتحقيق الذي نشرته مجلة "نيوزويك" الأميركية في عددها الأخير، حول جرائم الحرب التي ارتكبت في أثناء الحرب الأفغانية، في حق أسرى طالبان، تلقي ضوءا كاشفا حول الموقف الأميركي حيال تلك الهيئة القضائية الدولية، وتظهر أن إدارة الرئيس بوش لديها ما تخشاه من قيامها، وأنه قد جد في خلال أول أطوار الحرب الكونية على الإرهاب، أي الطور الأفغاني، ما من شأنه أن يجر الولاياتالمتحدة إلى قفص الاتهام، أو، على الأقل، ما من شأنه أن يضعها في موقع كذلك الذي كان، حسب لجنة التحقيق الإسرائيلية كاهانا، للحليف الحالي أرييل شارون بشأن مجزرة صبرا وشاتيلا، أي في موقع تحمل المسؤولية على ما حدث، وإن على نحو معنوي أو سياسي، إن لم يكن من باب الجرم المباشر، قرارا أو تنفيذا، أو من الوجهين معا. وبحسب تحقيق "نيوزويك"، أن آلاف الأسرى من طالبان، وربما من القاعدة، تمت تصفيتهم، على أشنع طريقة، وعلى نحو ينافي، بطبيعة الحال، كل القوانين والأعراف المعمول بها في الحروب، سواء كانت من قبيل التشريعات المدونة أو من قبيل المبادئ التي يفترض فيها أن تحكم سلوك البشر وأن تضفي عليه سمته الإنسانية. فالأسرى أولئك، تكشف المجلة الأميركية، كانوا قد نقلوا في شاحنات صهاريج مغلقة، حتى قضوا اختناقا، ثم ووروا الثرى في الخلاء في قبور جماعية، استوعبت مئات الجثث، ثم سُوّيت بالأرض. وهي قصة يبدو أنها كانت معلومة منذ أمد، وردت شهادات بشأنها وترددت أصداؤها بين ناشطي حقوق الإنسان الغربيين منذ أمد، من دون أن يسندها دليل ملموس، حتى تمكنت جمعية "أطباء من أجل حقوق الإنسان" الأميركية، من العثور على تلك المقبرة الجماعية، وأي على ما يقطع الشك باليقين. بطبيعة الحال، بإمكان الإدارة الأميركية، التي سبق لها أن أنكرت حصول تلك الجريمة عندما كان أمرها مجرد إشاعة، أن تنكر الآن، وقد انكشف أمرها، مسؤوليتها عنها، وأن تقول إن قواتها المشاركة في الحرب الأفغانية ليست ضالعة فيها، وهي لا شك صادقة في ذلك. لكن تبرئة الذات، من خلال توجيه التهمة إلى الأداة لا يجدي كثيرا في مثل هذه الحالات، أو أنه قد يجدي بالمعنى القضائي البحت، لو عرض الأمر على محكمة من المحاكم، تلك الجنائية الدولية التي تناصبها واشنطن عداء شديدا أو سواها، لا من حيث المسؤولية المعنوية والسياسية. ففي هذا الصدد، أي في صدد الاكتراث بالحقوق الإنسانية، حتى وإن تعلق الأمر بمقاتلي طالبان والقاعدة وذلك أمر بديهي ولكن يبدو أنه بات مُغيّباً بما يستوجب التنويه به وتأكيده، لا شك في أن واشنطن كانت على بينة من نوعية حلفائها الأفغان المحليين ومن سجلهم في ذلك المضمار، خصوصا وأنهم يعدون في صفوفهم رجلا مثل الجنرال الأوزبكي عبد الرشيد دوستم، مجرم الحرب الذائع الصيت، والذي سبق له أن وضع كفاءاته في ذلك المجال في خدمة حلفاء سابقين، من النظام الشيوعي الذي كان قائما في كابول إلى ذلك الذي أعقبه بعد جلاء السوفيات، إلى الولاياتالمتحدة. ومن بين أنكى ما في أمر الجريمة المذكورة، أن الكشف عنها ينذر بما هو أدهى، ويترك انطباعا بأن جرائم أخرى، من نفس الطبيعة وعلى نفس الدرجة من الفداحة، قد تكون قد اقترفت على نطاق واسع في أثناء الحرب الأفغانية الأخيرة. نوعية الحلفاء الذين اعتمدت عليهم الولاياتالمتحدة، من القوات والتنظيمات المنضوية في ما يعرف بتحالف الشمال، تغذي في هذا الصدد شبهات كبيرة وقوية، وكذلك التكتم الشديد التي حف بمجريات تلك الحرب. فالرأي العام لم يعلم شيئا عن تلك الحرب، ولا عن الطريقة التي خيضت بواسطتها ولا عن الأسلحة التي استخدمت فيها ومدى تقيدها بالإعراف الدولية، وهو ما عاد إلى الرقابة الشديدة والمحكمة التي فرضها البنتاغون، ولكن كذلك إلى قدر من التقاعس أبداه ممثلو الرأي العام، سواء في ذلك وسائل الإعلام أو أعضاء الهيئات المنتخبة، كما لو أن هول ما جرى في نيويورك وفي واشنطن في الحادي عشر من أيلول من العام الماضي، إضافة إلى المدى الذي بلغته عمليه أبلسة كل من نظام طالبان ومن تنظيم القاعدة، قد منحا الإدارة الأميركية صكا على بياض ووضعاها في حل من كل مساءلة بشأن طريقتها في خوض تلك المواجهة. والحال أن ما انكشف من أمر تلك الحرب حتى الآن مثير للانتقاد ولا يبدو مشرفا، وأنه إذا ما بقيت لها من صورة إيجابية فهي لا تدين بها إلا ما لا يزال خفيا من ملابساتها ومجرياتها. أما في ما عدا ذلك، فإن الجريمة التي كشفت النقاب عنها مؤخرا مجلة نيوزويك إنما تأتي لتغذي اشمئزازا من تلك الحرب ومن طريقة الولاياتالمتحدة في خوضها، كانت قد استثارته فصول سابقة، سواء في ذلك المجزرة التي ذهب ضحيتها نحو ثلاثمائة من أسرى طالبان والقاعدة في سجن كالايجانغي، قيل بأنهم قد تمردوا، أو قضية أسرى قاعدة غوانتانامو وما أثارته من جدل ومن انتقاد. وكل ذلك، إضافة إلى ما قد يكشف عنه مستقبل الأيام من خروق مشابهة، إنما يطرح سؤالا ويثير علامة استفهام حول الحرب الأميركية على الإرهاب: ألا تكون الولاياتالمتحدة بصدد خسارة حربها على الإرهاب، في أهم أوجهها، أي في ذلك الوجه الأخلاقي الذي تزعم أنه ذلك الذي يميزها عن الإرهابيين الذين تلاحقهم، وتتوسله في شرعنة الوظيفة التي أناطتها بنفسها وتنكبتها لتخليص العالم منهم ومن "شرهم"، على ما تقول مفردات الرئيس بوش وقاموسه الخلاصي؟ وإذا كان الأمر كذلك، فإن الولاياتالمتحدة مخيرة بين أمرين، إما أن تخوض حربها على الإرهاب بالطريقة التي توختها حتى الآن، أي، في حقيقة الأمر، ك"كصراع بين شرين"، وفي هذه الحالة لا يجب عليها أن تطالب بمصادقة العالم على ما تفعل، أو أن تخوض تلك الحرب باسم العالم، وعليها في هذه الحال أن تسعى إلى التعاون مع بقية أعضاء المجموعة الدولية، استنادا إلى عدد من المبادئ الأساسية التي يفترض فيها أن تنظم الحياة الدولية، سواء تمثلت تلك المبادئ في عدد من المعايير الأخلاقية أو في التشريعات الدولية. قد يكون هذا الخيار الأخير هو جوهر ما تطالب به الأسرة الدولية، وعلى رأسها أوروبا... لكن أميركا، على ضوء طريقتها في الإعداد لحربها ضد العراق، لا تستجيب. صالح بشير