تحاول واشنطن الاستفادة من كل الخبرات المتراكمة حول أفغانستان سواء كانت عسكرية أو استخباراتية أو سياسية. اذ تدرك واشنطن، وباعتراف الرئيس جورج بوش في مؤتمره الصحافي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في أعقاب قمة شنغهاي، أنها لا تستطيع وحدها هزيمة الإرهاب. وتأتي دعوة رئيس الوزراء البريطاني توني بلير، أوثق حلفاء واشنطن الى أخذ الخبرة الروسية بشؤون أفغانستان في الاعتبار وإعطاء موسكو دوراً رئيسياً في هذه الحرب، دليلاً على الحاجة المتزايدة الى تجاوز منطق المعالجة الأحادية المفرطة لهذه الأزمة. ويرى مارك كرامر أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد أن إدارة بوش في حاجة ماسّة الى إعادة تقويم التجربة العسكرية السوفياتية في أفغانستان بعقل منفتح يتخطى مفاهيم الحرب الباردة، ويستخرج الدروس والعبر من هذه التجربة. وتأتي هذه التوصية في وقت أصبحت فيه المخاوف من الإرهاب والجمرة الخبيثة والأوضاع الاقتصادية المتردية ومن الجمود في الموقف العسكري ومن الهزيمة، تسيطر على الأميركيين وتشكل حياتهم اليومية، بحسب تعبير المؤرخ آرثر شليسنجر. ويشير كرامر إلى أن المسؤولين الأميركيين، مدنيين وعسكريين، ساهموا في خلق أسطورة الهزيمة السوفياتية وأسطورة المقاتلين الأفغان كقوة لا تُقهر وقادرة على طرد أي معتد أجنبي. ولا يستهين كرامر بالدعوة الى التزام الحذر قبل الإقدام على عمل عسكري بري واسع، لكنه يحذّر من تجاهل السمات العامة لتجربة القوات السوفياتية، مؤكّدا أن قرار الانسحاب الذي اتخذه ميخائيل غورباتشوف في أوائل 1988 كان قرارا "قائما على اعتبارات سياسية وديبلوماسية لا على ضرورات عسكرية". ويشير كرامر، في معرض تقويمه للتجربة العسكرية السوفياتية في أفغانستان، إلى النقاط الآتية: 1- ارتكبت القوات السوفياتية أخطاء في بداية الحرب، إذ فشلت في حماية إمداداتها اللوجستية وخطوط الاتصالات، لكنها سرعان ما راجعت إستراتيجيتها وكيّفتها مع المعطيات العيانية السائدة. 2- استعانت القيادة السوفياتية الميدانية بالمروحيات وبقوات مدرّبة خصيصا لخوض معارك في مناطق جبلية. وبدأت هذه القوات تخوض حرب عصابات مضادة، اعتمادا على وحدات صغيرة مسلحة جيدا. وأعجز الأسلوب الجديد المقاتلين الأفغان عن الاستيلاء على أي مرافق أو منشآت عسكرية سوفياتية من منتصف الثمانينات حتى الانسحاب. 3- عندما اتخذ غورباتشوف قرار الانسحاب كانت القوات السوفياتية على وشك تحقيق نصر نهائي والقضاء على المقاومة الأفغانية. ولولا الدعم المادي والعسكري الأميركي والباكستاني، ولولا الانسحاب السوفياتي وجمود نظام نجيب الله، لما استمر المقاتلون الأفغان في البقاء على قيد الحياة. ويرى كرامر أنه من الضرورة الاعتراف بأن التجربة السوفياتية أظهرت بما لا يدع مجالا للشك أهمية العمل المخابراتي كعامل جوهري في مواجهة خصم غير نظامي، كما أظهرت أهمية الدور الذي تلعبه المروحيات في شن ما يُعرف بالغارات العميقة. ويخلص إلى إن واشنطنوموسكو خاضتا حربين غير شعبيتين في فييتنام وأفغانستان، في حين أن الحرب الحالية تحظى بتأييد داخلي أميركي كبير وتأييد دولي وشرعية سياسية لا يمكن التقليل من شأنها، مما يحصّن واشنطن في مواجهة أي ضغوط لإنهاء الحرب قبل إنجاز أهدافها المعلنة. ويلاحظ كرامر ان المعضلة الرئيسية التي تواجه واشنطن هي كيفية تحديد الحرب وتعريفها وكيفية إنجاز الانتصار فيها. ويرى أن الهدف الأول يجب أن ينصب على القضاء على تنظيم "القاعدة"، فإذا تم ذلك، سيكون من السهل جدا القضاء على "طالبان" وإزاحتها من السلطة. إذ أن تنظيم "القاعدة" يمثل القيادة الأيديولوجية والقيادة الميدانية إلى حد بعيد بالنسبة الى "طالبان". وفي هذا الصدد يمكن أن تستفيد واشنطن من انقلاب الرئيس الباكستاني برويز مشرّف على "طالبان"، ومن انقطاع الدعم المالي والعسكري والأيديولوجي عن تحالف "طالبان - القاعدة". ويرى كرامر أن التكنولوجيا المتفوقة لدى أميركا ستضمن الانتصار، إذا أُحسن استخدامها على نحو يجمع بين القصف العنيف المكثف على مواقع "طالبان - القاعدة" وبين المروحيات والوحدات الخاصة المجهزة جيدا والسريعة الحركة. وتنبع أهمية ملاحظات كرامر، على رغم طابعها السريع والمتعجل، من أنها تلبي حاجة ومطالب أميركيين لتجاوز المخاوف من تورط في مستنقع أفغاني على غرار ما حدث مع القوات السوفياتية، وفقا للفهم الخاطئ والمدفوع بحسابات الحرب الباردة. ويختتم كرامر بهذه الملاحظة: "على العكس من الاتحاد السوفياتي الذي ألحق دمارا كبيرا بالأفغان، ستقوم الولاياتالمتحدة بتفصيل خطتها العسكرية على أساس الدمج بين العمليات الجوية والبرية معتمدة في ذلك على معلومات استخباراتية موثوق بها وأسلحة متطورة لاستهداف الإرهابيين ومواقعهم... ان هناك أسباباً كثيرة تدفع إلى القول ان الولاياتالمتحدة ستنجح في تحقيق أهدافها على رغم بعض الخسائر". وفي الواقع يمكن القول ان ملاحظات كرامر تتسق مع التقارير الأخيرة عن تطورات الخطة الأميركية للحرب في أفغانستان. فالرئيس بوش ما زال يعلن أن الحرب لن تتوقف حتى يتم إنجاز هدفي تدمير تنظيم "القاعدة" و"طالبان"، ووزير الدفاع دونالد رامسفيلد يريد زيادة القوات الأميركية بثلاثة أو أربعة أضعاف وفي أسرع فرصة ممكنة. كما أن اشتداد القصف الجوي بهدف "كشف" قوات "طالبان" أمام قوات "تحالف الشمال" المعارض، تمهيدا لتحركها على أكثر من جبهة ولتمكينها من الزحف على كابول، وكذلك استخدام طائرات "جي. ستار" لتوفير معلومات جديدة، كلها مؤشرات لقرب بدء عمليات برية كبيرة في افغانستان.