مهما كان الرأي في فلاديمير بوتين، وهو على أية حال رأي أقرب الى السلبية في معظم المجالات، سواء تعلق الأمر بنزعته التسلطية التي تجعل منه سليل الاستبداد الشيوعي، أو سليل الاستبداد الروسي على نحو أعم، أو بتلك الجليدية في الملامح والسلوك تنضح من شخصيته في كل حين، فإن ما لا سبيل الى نكرانه ان الرئيس الروسي الحالي يمتلك مواصفات رجل الدولة، تلك التي تؤهله فهم التحولات لحظة حدوثها، وتمييز ما هو منها في مصاف الانقلابات التاريخية الكبرى وما هو منها من غث الأحداث الجارية ومن قبيل تواترها العادي. تبدت تلك الملكة لدى بوتين على نحو جلي في أنه كان السباق، على الأقل بين القادة الأجانب، الى فهم طبيعة حدث الحادي عشر من أيلول سبتمبر في الولاياتالمتحدة، والى فهم ان الحدث ذاك وما ينجر عنه، يفتح أفقاً جديداً، في التاريخ وفي العلاقات الدولية. فهو كان أول رئيس دولة يتصل بنظيره الأميركي جورج بوش الابن، ليصطف الى جانبه في حربه، المزمعة آنذاك، ضد الارهاب، من دون شروط ولا مساومة. لم يطالب مثلا بمساواة مقاتلي الشيشان، أولئك الذين ما انفك يحاربهم منذ سنوات بطريقة جلبت عليه أقذع الانتقادات، بحركة "طالبان" وأعضاء منظمة "القاعدة"، ولم يتخذ من مثل ذلك المطلب شرطاً لانضمامه الى أي تحالف يقوم في مواجهة الارهاب، ولم يتذرع بالرأي العام في بلاده، وهو بلا شك قليل الحماس لذلك الغرب المكروه والمرغوب في آن، ولم يسع الى مقايضة شيء بشيء. وليس ذلك تعففاً منه وأريحية. لكنه الفارق بين رجل الدولة وتاجر السجاد، هذا الأخير يساوم ويماحك قبل إبرام الصفقة، وذاك الأول قد لا يساوم، في بعض الحالات، إلا في ما بعد، بعدما يكون قد فرض نفسه شريكاً. ففلاديمير بوتين يبدو أنه أقر العزم على ألا تكون بلاده، هذه المرة، لا في معسكر المهزومين، كما في نهاية الحرب الباردة حيث فقدت امبراطوريتها ومنزلتها، ولا في عداد المتفرجين، أو ممن يحاولون وساطة ضجيجها أكبر من مفعولها، كما في حرب الخليج الثانية، تلك التي لم تجلب على موسكو، على سبيل المثال، سوى موقع الراعي الثاني لمحادثات السلام العربية - الاسرائيلية، من دون أن تكون يوماً في وارد القدرة على ممارسة رعايتها تلك. فلاديمير بوتين رأى أن يخاطر هذه المرة، وأن يخاطر بأشياء كثيرة، باستحضار النفوذ الأميركي الى آسيا الوسطى، منطقة النفوذ الروسي، أمنياً ونفطياً، سواء كان ذلك النفوذ من قبيل الحنين أو من قبيل التوق، وخاطر ربما بتعريض بلاده الى الهجمات الارهابية وربما، من جراء كل ذلك، بتعريض سلطته الى الاحتجاج الداخلي، فكان أن أقدم على ذلك التحول في العلاقات بين بلاده والولاياتالمتحدة، وهو تحول وصفه وزير خارجية هذه الأخيرة، كولن باول، بأنه من طبيعة "زلزالية"، كما تقترب قارة من أخرى بفعل ما يعتمل في باطن الأرض من نار ومن حمم ومن طاقة لا حدود لها. أما بوتين، فقد برر اقترابه من واشنطن بضرورة الانتهاء من الحرب الباردة، أو بما يفيد هذا المعنى. إنهاء الحرب الباردة؟ تساءل أحد المعلقين الأميركيين، ألم تنته منذ ما يزيد على العقد؟ بلى، ولكنها ما انفكت تنتهي مذاك وحتى هذه اللحظة، أي ان مسار انتهائها لم يكتمل، أو هو ربما كان بصدد الاكتمال في افغانستان. والبلد هذا وحربه الأخيرة، ربما كانا أكثر ما يعبر، بكثافة وبجلاء في الآن نفسه، عن كنه هذا الذي يجري، أي ذلك الانتقال الفعلي الى ما بعد الحرب الباردة، مع ما يحف به من مراجعات عميقة، بات بعضها ناجزاً، في حين انطلق بعضها الآخر ليؤتي ثماره بعد حين. وأول ما يلفت الانتباه في ذلك الصدد، ان التحالفات التقليدية، تلك التي كانت قائمة متينة ابان حقبة الحرب الباردة وموروثة عنها، اهتزت أو بات يتهددها الانفراط، ان لم تكن قد انفرطت. لندع جانباً الحالة الخاصة المتمثلة في أوروبا الغربية، فما بين القارة القديمة والولاياتالمتحدة يفوق بكثير مجرد التحالف، ناهيك عن أن واشنطن لا ترى في القارة تلك كياناً سياسياً بل ليس أكثر من حافظة نقود، تشركها في التمويل ولا تشركها في القرار، أو تفضل التعاطي مع دولها في اطار ثنائي... لندع جانباً اذن تلك الحالة الخاصة الأوروبية ولننظر الى ما عداها. وأبرز ما تجدر ملاحظته في ذلك الصدد أن الولاياتالمتحدة واجهت أكبر المصاعب خلال حربها الأفغانية الأخيرة مع حلفائها التقليديين. فقد كان عليها أن تبذل بالغ الجهد من أجل فك تلك الرابطة الوثيقة بين باكستان وحركة "طالبان" من دون أن تنجح في ذلك تماماً، حيث بقيت اسلام آباد آخر من يقيم علاقات مع الحركة المذكورة، حتى اللحظة الأخيرة تقريباً، كما أن تجنيد باكستان في "الحملة ضد الارهاب" لم يجر سلساً تلقائياً، بل تطلب ضغوطاً شديدة الوطأة والكثير من الترهيب، ومثله من الترغيب رفع عقوبات والغاء ديون. أما على الجانب العربي، فإن بلداً مثل مصر سبق له أن اضطلع ابان حرب الخليج الثانية بدور محوري، كان موقعه أقرب الى الهامشية في المواجهة الأخيرة، كما أن أميركا أو بعض أميركا، قد دخل في سجال صحافي مفتوح مع بعض حلفاء أميركا الأساسيين من العرب، على نحو لم يسبق له نظير خلال الخمسين سنة الماضية، أو على الأقل منذ استخدام سلاح النفط في حرب 1973 العربية - الاسرائيلية. ثم، وأهم من كل ذلك ربما وأكبر دلالة، ان الحرب الدائرة في افغانستان انما هي بين حلفاء سابقين: الولاياتالمتحدة والاسلام الايديولوجي ممن كان يجمع بينهما على نحو وثيق، وفي خندق واحد، العداء للاتحاد السوفياتي السابق، "امبراطورية الشر" أو رأس الإلحاد". أبرز حلفاء أميركا في الحرب الأخيرة كانوا من البلدان التي كان العداء أو على الأقل الريبة في أعلى درجاتها، مستحكماً أو وجودياً بينها وبين واشنطن: روسيا بطبيعة الحال والجمهورية الاسلامية الايرانية. وكان التكامل بين تلك الأطراف الثلاثة خلال الحرب الأفغانية الأخيرة، وفي مواجهة حركة "طالبان"، وثيقاً وعضوياً، ربما بلغ درجة تقاسم الأدوار: للأميركان القصف الجوي وللروس وللايرانيين الفعل على الأرض، الى جانب مجاهدي تحالف الشمال، من خلال تسليحهم ودعمهم وربما تأطيرهم أو تأطير بعضهم. ذلك ان طهران اقتربت من وعي للحظة شبيه بذلك الذي توصلت اليه موسكو. هل تكون الحرب الأفغانية الأخيرة مناسبة لتصفية التحالفات الموروثة عن الحرب الباردة، كلها أو بعضها، ولاجتراح سواها؟ إذا ما صح ذلك، يبدو ان روسيا بوتين قد ضمنت لنفسها موقعاً امتيازياً في ذلك النصاب المقبل، واحتلت موقعاً في علاقتها بالولاياتالمتحدة ربما جعل من سائر مشاغلها، في اطار تلك العلاقة، مجرد تفاصيل، سواء تعلق الأمر بالخلافات حول حرب الشيشان أو باتفاق منع انتشار الأسلحة الصاروخية، تلك العائدة الى مطلع السبعينات ويتعامل معها بوش على انها في حكم اللاغية، أو بانخراط روسيا في منظمة التجارة العالمية... كل تلك المشاكل وسواها، ربما تغيرت النظرة اليها تماماً، من عناصر أزمة الى بنود يجري تذليلها في علاقة تحالفية، وان تخللها بعض توتر. ثم انه إذا ما صح ذلك، فإنه سيكون أحد أبرز تداعيات 11 أيلول في انتظار تداعيات أخرى بعيدة المدى، يعسر حصرها الآن، لكنها قد لا تكون في صالح هذه المنطقة، منطقتنا، من العالم.