هذا النزاع الافغاني نزاعات عدة... فهو حرب أهلية، جارية منذ سنوات مديدة، تُستأنف بضراوة أكبر وقد مكّنها التدخل الاميركي من نفس جديد، فحوّر موازينها أو حركها أو أربكها، بأن دعم تحالف الشمال، على نحو مباشر أو غير مباشر، وبأن اضعف خصومه من حركة "طالبان". بل ربما أمكن القول إن التدخل الاميركي ذاك قد يفضي الى انبعاث الحرب الاهلية الافغانية، بعد ان استقرت في ما يشبه حال "السلام المسلح". اذ انقسم البلد سياسياً وعسكرياً والجانب العسكري ذاك يبدو أنه بات التعبير السياسي الوحيد في افغانستان وفق مكوناته الاثنية. فاستأثرت حركة "طالبان" بمناطق البشتون، وتقاسمت الحركات الأخرى مناطق الشمال الطاجيكية والأوزبكية وسواها، فلا هذه استطاعت "استرجاع" الحكم من "طالبان"، ولا هؤلاء تمكنوا من "توحيد" البلد تحت امرتهم. والتدخل الاميركي قد يكون، من وجهة النظر هذه، عامل استفحال للحرب الاهلية الافغانية لا عامل تهدئة أو حل لها. اذ انه قد يمكّن تحالف الشمال من غلبة أو من أرجحية على الصعيد العسكري لا تجد ترجمتها الملائمة على الصعيد السكاني أو الاثني. وهو لب الحياة السياسية في افغانستان وعماده، إن أدى ذلك الى إنهاء حركة "طالبان" أو الى تشتتها ميليشيات متفرقة أو متنازعة، على ما يبدو انه وجهة الأمور، حسب المعلومات القليلة الواردة من ذلك البلد. والكلام هذا لا يقال، بطبيعة الحال، من باب الشفقة على الحركة المذكورة والخوف على مصيرها، بل من باب الاشارة الى ما بات معلوماً من ان الحملة الاميركية ضد الارهاب، تبدو عسكرية صرفة، لا تواكبها رؤية تتعلق بالمستقبل السياسي للبلاد وسيناريوهات يجري العمل على انفاذها، من اجل تحويل شبه "السلام المسلح" الذي كان قائماً الى نصاب سياسي قابل للحياة. وفي ذلك ما قد يبرر مخاوف بلدان الجوار، مثل باكستان أو ايران، وما يفسر المحاولات التي تبذلها الاممالمتحدة، في صدد تلافي ذلك التقصير الاميركي. وهي محاولات لا يوجد في سجل المنظمة الدولية خلال السنوات الأخيرة، ما من شأنه ان يدعو الى التفاؤل حيالها، على رغم حصولها وحصول أمينها العام على جائزة نوبل للسلام... ربما عملاً بالقول المأثور "تفاءلوا بالخير تجدوه"، أو ربما تعبيراً عن وجود حس دعابة، كنا ذاهلين عنه، لدى اللجنة المانحة للجائزة الأثيرة! وأنكى ما في الأمر، ان جازت هذه العبارة في مثل هذه الحالات، ان الولاياتالمتحدة بصدد مهاجمة افغانستان الطالبانية على الأقل، من دون ان تكون في حرب معها. اذ رسمياً أو نظرياً، لا يوجد من سبب للنزاع بين واشنطن وبين الملا عمر وصحبه الميامين، سوى اسامة بن لادن وتنظيمه "القاعدة". فالولاياتالمتحدة لم تحرك اساطيلها وطائراتها وصواريخها من أجل الثأر لهدم تمثالي بوذا في مقاطعة باميان، ولا لنصرة نساء افغانستان، بل من اجل القضاء على بن لادن أو القبض عليه وتفكيك قواعده ومعسكراته. والسؤال هو ماذا لو تحقق لها ذلك خلال الأربع والعشرين ساعة المقبلة؟ هل تراها ستسحب يدها من حرب فقدت مبررها الرسمي، ربما في نظرها، وبالتأكيد في نظر العديد من دول العالم، بما في ذلك الحلفاء منها، أم هل تراها ستستمر في حربها حتى اجتثاث حركة "طالبان"؟ وبأية ذريعة يمكن قبولها من اعضاء التحالف العريض الذي قام حول الولاياتالمتحدة بهذه المناسبة. حول كل تلك التساؤلات، لا تقدم الولاياتالمتحدة أية أجوبة، فتلك المهمة يبدو ان باكستان هي من يتولاها، وفي نيتها انقاذ طالبان، أو بعضهم ممن اطلقت عليهم صفة "الاعتدال"، مثل وزير خارجية الحركة وكيل أحمد متوكل ذلك الذي شاعت في شأنه انباء كثيرة ومتضاربة خلال الأيام الأخيرة، وانقاذ نفوذها في افغانستان تبعاً لذلك. أو ان أوروبا هي من يبذل المساعي في ذلك الصدد، من خلال الملك الافغاني السابق ظاهر شاه، ذلك الذي يسهل الاتصال به في منفاه في العاصمة الايطالية روما. والحقيقة ان ذلك الصمت الاميركي في شأن الجانب السياسي للحملة ضد طالبان لا يطمئن. اذ من شأنه ان يترك المجال فسيحاً أمام نزاع آخر هو ذلك الجاري في البلد منذ ان انغمس في الحرب الاهلية، وفق ما هو سيناريو كلاسيكي في مثل تلك الحالات، اي النزاع الاقليمي الذي يجد في افغانستان وبواسطة الافغانيين، متنفسه و"ساحته" على ما تقول مصطلحاتنا النضالية وامتداداته. اذ من المعلوم ان افغانستان تحولت من مجال ساخن للحرب الباردة بين المعسكرين سابقاً، السوفياتي والغربي، الى مجال لحرب من الطينة نفسها، ولكنْ على الصعيد الاقليمي، هدفها محاصرة ايران أو الوصول الى نفط بحر قزوين أو إرباك الأوضاع في آسيا الوسطى الاسلامية أو النفاذ اليها وما الى ذلك من الاهداف. وهي حسابات ضلع فيها القاصي والداني على صعيد المنطقة، من اسلام آباد الى طهران، الى موسكو والى واشنطن وإن بالواسطة. فهل يعني صمت الولاياتالمتحدة حيال المستقبل السياسي لافغانستان، أنها زاهدة عن كل ذلك، أم هو يعني أنها لا يضيرها استمرار الوضع على حاله في ذلك البلد، أي مجالاً مفتوحاً لصراع اقليمي لم يحسم بعد، بعد ان يصار من خلال العمليات العسكرية الجارية حالياً الى تشذيبه من الارهاب أو بالأحرى مما كان منه ذا بعد ومدى دوليين، كذلك الذي يمثله بن لادن وتنظيمه "القاعدة"، أو ما شابههما وحذا حذوهما؟ لا شك في ان الوضع القائم في المنطقة حول افغانستان، ربما كان أعقد من الوضع الافغاني ذاته. لكن ذلك لا يعفي الدولة العظمى الوحيدة التي تنفرد بقيادة العالم من مهمة ان يكون لها تصورها السياسي في شأن تلك الحالة العينية، وان كان شاغلها هو حربها الكونية ضد الارهاب. الأمر يبدو كما لو انها ليست معنية، في حربها الافغانية، إلا بحملتها ضد الارهاب، باختبار طرق خوض تلك المعركة في افغانستان اليوم وفي مكان آخر غداً ربما، وبكيف يمكن اللجوء الى استراتيجيات جديدة في خوض هذه الحرب الجديدة "اللامتوازنة" بحسب المصطلح الذي بات شائعاً في شأنها، بالمعدات التي يجب ان تستخدم فيها وبكيفية استخدامها، نزاعاً يقع عند نقطة لقاء ما بين الحروب التقليدية التي تتطلب مواجهة ميدانية وبين تلك الحديثة والتكنولوجية على غرار ما كانت الحال في اثناء حرب الخليج الثانية، خصوصاً في أثناء حرب كوسوفو الأخيرة ضد صريبا. يبدو ان الهاجس الاستراتيجي الاساسي لهذه الحرب الاميركية في افغانستان هو الاجابة عن السؤال التالي: كيف يمكن لأكبر قوة عسكرية في العالم، قادرة على ردع أي نزاع تقليدي قد يواجهها، ان تخوض "ميكرو حرب"، او تجابه اشتات مقاتلين، شأن مقاتلي "طالبان"؟ كيف تستخدم الوسائل التكنولوجية للتعويض عن ميزتين تلعبان لصالح ذلك الضرب من المقاتلين: سرعة الحركة، وتضاريس الأرض، وان تستعد بذلك لما قد تعتبره حروب المستقبل، بعد ان بدا جانب الدول مأموناً، أقله في المستقبل المنظور؟ كأنما الحرب الافغانية جانب تطبيقي في مقاربة اكاديمية... ولكن هل ان ذلك مبرر كافٍ لمثل ذلك العمى أو التعامي السياسي؟