بين ألمانياولبنان مسافة شاسعة، لكنّ هذين العالمين المختلفين شكلا حياة ربيع أبو خليل الموسيقية... وبين العود والمزمار، وهما الآلتان اللتان يتقن العزف عليهما، علاقة وطيدة، خصوصاً حين تتولّد منهما "موسيقى عالمية" من ابتكاره يصعب تصنيفها... الاّ وفق نتاجه الشخصي. عندما غادر بيروت إلى المانيا كان في السادسة عشرة من عمره، هرب من الحرب المستعرة في لبنان آنذاك، واتقن العزف على الناي الفلوت... ليكون موسيقياً، لا عازفاً متتبعاً نصيحة أستاذه الألماني بالتعاطي مع الألة الموسيقية كآلة تسمح ليد العازف بالإبداع عليها وليس العكس... ويتذكّر ربيع أنّه أبدى يوماً اعجابه بصوت الكمان، فرد عليه استاذه واضعاً الكمان على أذنه: "إنني لا اسمع له صوتاً!". من الفلوت إلى العزف على العود الذي أخذه عن والده، انتقل ابو خليل ليبدع مقطوعات موسيقية وتقاسيم واسطوانات احتل بعضها مثل "صبار المعرفة" طويلاً المرتبة الأولى في مبيع أسطوانات الجاز في أوروبا. آخر أسطوانة لربيع أبو خليل صدرت أخيراً بعنوان "التنهيدة" il sospiro. والموسيقي حالياً في بلده، لتقديم هذا العمل، من خلال حفلات التوقيع هذا المساء في ال "سيديتيك" الأشرفيّة، وغيرها. عن "التنهيدة" يقول ل"الحياة": "تختلف هذه الأسطوانة عما قدمته سابقاً، فهي عمل فردي بمثابة مذكرات ويوميات، لم أكن أنوي جمعها في اسطوانة لأنها تجربة شخصية، وهي عبارة عن ألحان كنت اكتبها من حين الى آخر... أكثر منها تقاسيم. ورغبت بأن اهديها الى اصدقائي اكثر من تجميعها وعرضها في الأسواق، ومع ذلك هي اليوم الرقم واحد في سلم المبيعات". أبو خليل المبتسم دائماً يصر على التمسك بجذوره اللبنانية والعربية ويستغل كل لحظة ليؤكد حنينه للوطن لبنان، الا انه يستدرك: "لست سفيراً للموسيقى العربية في العالم!". الموسيقى أساساً لغة عالمية في نظره: "لم اذهب الى اوروبا او المانيا حتى اكون متاجراً بالثقافة العربية. وأنا أرفض تصنيف أعمالي الموسيقية في خانة الجاز، لأن لا علاقة لها بالجاز كمفهوم أصلي. ويفرحني كثيراً ان أسطواناتي مدرجة في أماكن بيع الأسطوانات في أوروبا تحت خانة الأسم، وليس النوع". المهم ما يقوله العود والعود هو الآلة الأساسية أو الوحيدة في اسطوانات أبو خليل: "إنّها مجرد آلة، المهم ما يقوله العود، وما ينقله من احاسيس من يد عازف اتقن العزف بمرونة وتقنية عالية". عندما نفذت "التنهيدة" لم أكن أرغب بأن يسمع الناس بهلوانات على العود، فالموسيقى تنتهي وتقتلها الآلة التي ما هي الا وسيلة لإيصال القصة او اللحن". يحرص ابو خليل على ألاّ تكون موسيقاه أنانية ويعتبر أن الموسيقيين غير الأنانيين يهتمون ببقية اعضاء فرقتهم، وهم قلة، ويقول: "اهتم كثيراً بفرقتي، ولا يوجد في قاموسي تعبير رئيس الفرقة بعكس ما هو رائج في لبنان، حيث التركيز على شخص معين في الفرقة غالباً ما يكون رئيسها. المهم بنظري هو الموسيقى، اي ان يخترع الأنسان ويسمع وينتقد ما قدمه على هذه الآلة"، ووفق هذه القاعدة يختار ابو خليل أعضاء فرقته، شرطه الأساسي التجاوب مع زملائهم والإنسجام التام بينهم، "كما عقارب الساعة". ويوضح: "أسمع الكثير من العازفين وارصدهم خلال حفلاتهم الموسيقية، وإذا وجدت جوهر ما أبحث عنه ننضم للعزف معاً لتقديم موسيقى جميلة. وهذا تصرف يتنافى مع التفكير الموسيقي الرائج في لبنان اذ أن الموسيقين ينظرون إلى بعضهم بعضاً على انهم منافسون لا زملاء". والغربة - "لا سيما في المانيا المدرسة القاسية" كما يقول أبو خليل - كان لها تأثير واضح في حياته، وما يبقيه في الخارج على رغم محبته الكبيرة للبنان سبب علمي بحت: "في لبنان حياة اجتماعية حيوية، وركض مستمر وهو أمر لا يتوافق مع الموسيقى". ويعتبر أبو خليل أن العالم العربي، بما فيه لبنان، يمرّ بمرحلة انحطاط "قياساً الى مساحة لبنان وتاريخه الا انه قدم اشياء جميلة في الفن نظراً لحشرية ابنائه في البحث عن الجديد دوماً وهو امر غير متوافر في الدول العربية". وهذا الواقع ساهم في ان تصل موسيقى أبو خليل الى لبنان عبر اوروبا. عندما بدأ ابو خليل في المانيا تسويق ابتكاراته الموسيقية، واجه صعوبة بالغة في تسويق اسمه... فأسمه لا يجذب ولا ينتج المال، اضافة الى أن ما يقدمه من موسيقى يعتمد على ايقاعات معقدة وحركية، "تتضمن كل مقومات الفشل اذا اضيفت الى اسمي غير المرغوب به تجارياً. ومع ذلك نجحت في تسويق ما اقدمه لأني أوّمن بالفنّ من اجل الفن، وأرغب بموسيقى تهز الشعور، خلافاً للموجة الرائجة هذه الأيام في لبنان حيث حل الكومبيوتر مكان الآلة الموسيقية ويد الموسيقي". تقنية خاصة ولربيع أبو خليل تقنية يعتمدها في تسجيل مقطوعاته الموسيقية، اذ يعزف ما يؤلف من مقطوعات مع فرقته امام جمهور صغير لرصد وقعها عليه. وما لا يرتاح له من مقطوعات قد لا يدخل في الأسطوانة، والشرط الأساسي لنجاح العمل تقبل الجمهور وتفاعله معه. يولي ابو خليل اهتماماً كبيراً لجميع الحواس، ولحاسة الذوق مكانتها عنده، فهو متذوق راق للمأكولات، ومحب لتلك اللبنانية بشكل خاص: "كنت انوي تقديم كتاب طبخ، لمأكولات من لبنان وجميع انحاء العالم ترافقه الموسيقى التي اؤلفها، الا ان المنتج اراد الأمر تجارياً وتدخل في تفاصيل المشروع حتى في اسمه، ما افشله ووضعه في غياهب النسيان". يعيش ابو خليل دوماً بين عوالم مختلفة يجمع في ما بينها بنجاح متقن، فبين الموسيقى والطبخ، وبين لبنانوالمانيا، العود الفلوت... مسافات اختصرها ربيع ابو خليل في ما يقدمه، معتمداً على حس جمالي وذوق فني مرهف.