كأن الخلافات الاميركية - الاوروبية في شأن تغيير النظام في العراق لم تكن كافية حتى تأتي السيول الجارفة في اوروبا الشرقية لتزيد من حدتها وتوسع نطاقها. وحين رفع المستشار الالماني غيرهارد شرودر صوته منتقداً الولاياتالمتحدة وطالباً من رئيسها الاسراع بالتصديق على بروتوكول كيوتو، بوصفها احد المتسببين في اختلال التوازن البيئي واضطراب المناخ العالمي، فذلك كان دليلاً على ان الوان الخط الفاصل بين واشنطن وحلفائها تزداد وضوحاً وتبلوراً ناسفة مشروع الزعامة الاميركية للعالم التي حاول الرئيس بوش تكريسها في اعقاب احداث الحادي عشر من ايلول سبتمبر الماضي. لم يكن تباعد المواقف في شأن ضرب العراق، معطوفاً على التصعيد المتبادل من حدة اللهجة بعد معارضة واشنطن تشكيل محكمة جنائية دولية، سوى الجزء العائم من جبل الخلافات التي طفت على السطح بعيد اخراج تنظيم "القاعدة" وحركة "طالبان" من افغانستان، بل قبل ذلك، اي منذ كشف بوش عن رؤيته الهندسية للعالم الموزع على محورين احدهما خير محض والثاني شر مطلق. الثابت ان هذه التطورات جسدت متغيراً جديداً في عالم ما بعد الحرب الباردة، على خلفية التقدم الذي حققه الاوروبيون في طريق تعميق وحدتهم الاقتصادية والسياسية بالتوازي مع تنامي الضجر من الغطرسة الاميركية ورفض منطق الانفراد بالقرار الدولي. ومن هنا اضطر فرانسيس فوكوياما لتعديل نظريته التي بشرت بصراع شامل بين الاسلام والغرب يحل محل الحرب الباردة بين الشيوعية والليبيرالية، وبات يقول أن خط الفصل في ظل العولمة لم يعد بين الغرب وباقي العالم وانما بين اميركا وباقي العالم. معنى ذلك ان نبوءته في شأن نهاية التاريخ وسيطرة مبادئ الغرب وقيمه على جميع انحاء العالم بعد انهيار الشيوعية لم تتحقق. لكن المهم ان اوروبا قطعت اليوم شوطاً كبيراً في طريق بناء كيانها المستقل، ليس فقط من خلال مشروع توسعة الاتحاد الذي ستبت به قمة الدنمارك اواخر العام، وانما كذلك على صعيد التوحيد السياسي والعسكري، فهي وصلت الى مستوى طرح قضايا دقيقة تقع في قلب مشمولات السيادة الوطنية وفي مقدمها الدفاع والامن الداخلي والسياسة الخارجية. واذا كان مستبعداً القفز على التجاذبات القومية ومحو الخلافات والتباعدات لتشكيل قيادة سياسية موحدة، فإن اقتراح الرئيس الفرنسي الاسبق جيسكار ديستان، بوصفه رئيس اللجنة المكلفة صوغ رؤية لمستقبل الاتحاد، والداعي لتشكيل "كونغرس اوروبي" يحاسب اللجنة الاوروبية سنوياً ويمنحها تكليفاً لتسيير شؤون الاتحاد، ما انفك يحظى بتأييد متزايد من مراكز صنع القرار الاوروبي. اما على الصعيد العسكري فعلى رغم المصاعب التي تواجه تصنيع طائرة النقل العسكرية الاوروبية "ايرباص أ 400" والصاروخ جو - جو "ميتيور"، لم تتردد بلدان رئيسية في مقدمها فرنسا وبريطانيا واسبانيا في رفض عرض اميركي لتجهيز قواتها الجوية بطائرات النقل الاميركية الضخمة سي 17 وصاروخ "ايرام" البديل، وعقدت صفقات نهائية لاقتناء كميات كبيرة من الطائرة والصاروخ الاوروبيين، عدا المانيا التي سيتحدد موقفها في ضوء نتائج الانتخابات الوشيكة. مع ذلك يسعى الاميركيون لإخضاع الاوروبيين لإرادتهم بدعوى ضرورة توحيد التجهيزات العسكرية المتطورة داخل المنظومة الاطلسية، فيما هم يرمون في الواقع الى تعطيل تشكيل مركز اوروبي مستقل للتصنيع الحربي. وفي هذا السياق يرجح ان تزداد الفجوة بين القارتين اتساعاً مكرسة ابتعاد القلعة الاوروبية تدريجاً عن اميركا، واستطراداً تعميق عزلة الاخيرة بما يجعلها في مواجهة مفتوحة مع باقي العالم. وهكذا يبدو ان نبوءة فوكوياما الثانية ستصدق... بفضل مثابرة الادارة الاميركية الحالية على تحدي العالم بأسره.