قبل أن تكتب أدباً عليك أن تقرأ أدباً. لا يولد شيء من فراغ. الكاتب يعثر على صوته الخاص بينما يقرأ كتب الآخرين. حين يجد صوته يكتشف بعداً آخر جديداً في تلك الكتب التي قرأها. يعيد قراءة هذه الكتب فيرى أشياء لم يرَها أثناء القراءة الأولى. يتبدل. ومعه يتبدل العالم بشوارعه ومدنه ومكتباته. هذا قانون. إذا أصغيت إلى العالم سمعت نبضة دمك. الكاتب الذي لا يقرأ ليس كاتباً. أدرك بورخيس بينما يقرأ كافكا أن الوقت يُغير المؤلفين. سرفانتس القرن السابع عشر يختلف عن سرفانتس القرن الحادي والعشرين. "دون كيشوت" 1604 رواية سخرت من روايات فروسية كانت منتشرة في تلك العصور. لكن قارىء "دون كيشوت" اليوم يرى فيها عالم الفروسية كاملاً. هكذا يصير سرفانتس بطل رواية يكتبها الوقت. الوقت يُغير المؤلفين. الكتب تفعل ذلك أيضاً. بعد انكباب على قواميسٍ ومذكرات بحارة وموسوعات، كتب هرمان ملفل رواية الحوت الأبيض "موبي ديك" 1850. كارين بلكسن قرأت قصصًا لا تحصى قبل أن تكتب "سبع حكايات قوطية" 1934. القراءة جزء ثمين من تجربة الحياة. عند الحديث عن "التجربة" لا بد من التنبه إلى حقول غامضة ومجهولة الحدود. عاش كافكا حياته محجوزاً في غرفة في بيت أبيه. مارسيل بروست بطَّن جدران شقته بالفلين. هذه عزلة لم تقذفهما خارج العالم. عزلتهما المزدحمة بشخصيات خيالية لم تكن عزلة نسّاكٍ. قبل أن تكتب أدباً عليك أن تقرأ. هذه القراءة المنشودة لا تقتصر على الأدب. كلما اتسعت معارف الكاتب اغتنى أدبه. ما تقرأه من علوم وفنون يشرع أمام مخيلتك آفاقاً جديدة. الفصول الأولى من "مئة عام من العزلة" 1967 تدين بزخمها الأسطوري إلى مزيج لافت من معرفة تاريخية وجغرافية. القراءة عمل. هذا يشبه رجلاً يقطع شجراً في قلب غابة ليبني بيتاً. بلا فسحة تبقى المخيلة محاصرة. لا يرتفع بيتٌ بلا أساس. في العالم عددٌ لا نهائي من الكتب. الكتاب الجيد يُقرأ مرات. بينما تقرأ تحيا حياة أخرى. تتحول إلى شخصية خيالية. تذهب إلى أرض خيالية وتتقاسم وقتك مع أشخاص خياليين. بلا انتباه تفقد وعيك بالحدود بين الواقع والخيال. الواقع يغدو خيالياً أنظرْ يساراً. والخيال واقعاً. انتبه كالفينو بينما يُكرر قراءة الكلاسيكيين إلى أنه بات يشبههم. في تلك اللحظة تحول كالفينو إلى كاتبٍ كلاسيكي.