نعبر حقولاً مظلمة. لا يحدث هذا في بلادنا العربية فقط. يحدث في اماكن اخرى ايضاً. العصر الاستهلاكي الحديث قد يكون مظلماً. لكن هذه الحال لا تدعو الى الحزن والغيظ والإحباط بالضرورة. المسألة مثيرة للضحك ايضاً. ان تقرأ اسم كاتب كل يوم في الصحيفة. وأن تعجز عن قراءة كتاب واحد بقلم المذكور. ليس هذا سبباً للغم. هذا نبع دعابة لا ينضب. لا يدرك هذه الحقيقة احد كما يدركها العاملون في الحقل الثقافي. اهم من نتاجك كيف تُسوق نتاجك. ما قيمة قصصك وأشعارك إن لم يتحدث عنها الناس. ان لم يُكتب عنها في الصفحات الثقافية. إن لم تنتشر بين المهتمين وتُعرف. ان لم تُكرم فتتحول هذه المقالات والقصص والقصائد الى جواز مرور لشخصك الكريم، "جواز ثقافي" يفتح امامك الدروب الى ندوات ومؤتمرات وحوارات وصالونات ومعارض ومعاهد وجامعات ولقاءات... ما قيمة نتاجك كله ان لم يفتح امامك آفاق المجد والأسفار و"الاستفادة"، آفاق البسط والانشراح والشهرة. ما قيمة ادبك الرفيع ان لم يمنحك السلطة. السلطة مفتاح ثقافتنا. اياك ونسيانها. لا يحتاج الواحد الى نيتشه ليفهم العالم. السلطة مطلب. المطلب الأول. الكلمات تعطي الكاتب سلطة. وما اسهل ان تُضاعف هذه السلطة - ايها الكاتب الخيالي - وان تضخمها الى حدود غير مسبوقة إذا أنت نجحت في عقد الصلة المنشودة بين الكلمة والصورة. هكذا تصير كاتباً وسياسياً ورجل اعمال في آن معاً. تحضر من دون كتبك. تحضر من دون كلماتك. تحضر بسطوة اسمك اللامع. بسطوة صورتك. بسطوة طيفك الساكن عيون الأصحاب والأتباع والمريدين والمحبين. تحضر بسلطة الكلمة ورنينها الخلاّب، ولو تجوفت الكلمة، ولو أفرغها من المعنى التكرارُ. تكون صاحب سلطة او تكون لا احد. نشر هرمان ملفل 1819- 1891 "موبي ديك" عام 1851. لم يكن بلغ الثالثة والثلاثين بعد. ولم تكن روايته الأولى. قال ملفل لزوجته قبل ان ينشر "موبي ديك" إن هذا "الحوت" سيعطيه المجد والقوة. لم يعطِ "الحوت" صاحبه مجداً ولا قوة. اعطاه ان يهوي الى ظلمات بلا قرار. لم تلفت الرواية احداً. بعد اربعين سنة على ظهور "موبي ديك" مات ملفل منسياً، موظفاً عادياً في جمارك نيويورك، كاتباً مغموراً لا يستحق اكثر من حفنة جمل في الطبعة الحادية عشرة للبريتانيكا. المجد جاء بعد الموت بثلاثة عقود. جاء صاخباً سريعاً عنيفاً. اكتشف العالم "الحوت"، واكتشفَ ملفل، في عشرينات القرن العشرين. ملفل لم يعرف شيئاً من ذلك. بعد ثلاثين سنة من النوم تحت التراب لم يبقَ من الرجل غير العظم الأبيض. في الفصل الثاني والأربعين من "موبي ديك" يتأمل ملفل رعب البياض: بياض الحوت وبياض الدبّ القطبي وبياض السماء وبياض البحر وبياض الصفحة وبياض الفضاء وبياض العالم. يكتب ملفل عن الأبيض غارقاً في ثلوج شتاء 1849 او 1850. ويرى حوتاً هائلاً يشق البحار الجنوبية عابراً تلافيف دماغه. ملفل لم يعرف ماذا يخفي المستقبل. لو عرف ان الظلمات، ان البياض المرعب ينتظره، هل كان يتوقف عن الكتابة؟ هل كان يكفّ عن تعكير بياض الصفحة بأسود الحروف؟ الكاتب الحقيقي لا يكتب من اجل مجد وشهرة. الكاتب الحقيقي يكتب من اجل الكتابة. يكتب لأنه لا يستطيع ألا يكتب. إذا كنت قادراً على العيش من دون ان تكتب، لا تكتب. اصنع خدمة لهذا العالم. المكتبات تعجّ بالكتب. لا احد يحتاج الى مزيد من الروايات والقصائد والدراسات المكرورة. هذا كلام يُحبط ولا يحبط. يُحبط للوهلة الأولى. لكنه بعد حين يركد في قرارة النفس. ولعله يدفع الواحد الى الاجتهاد. الاجتهاد والقراءة. نعبر حقولاً مظلمة. كل هذه المؤتمرات والأمسيات والمعارض واللقاءات والصالونات والاستعراضات و"التنفيعات" وفواتير المقالات والخدمات والدعوات المتبادلة لا تؤسس ثقافة. لا تفتح حواراً كما يقال في لغة الكليشيهات التافهة. لا تلقي بذوراً صالحة في تربة صالحة. على الصخر تُلقى هذه البذور. ثم انها بذور خالية من الروح اصلاً. لن تعثر على الروح في قاعة صاخبة. لن تعثر على الروح بين الحشود. نعبر حقولاً مظلمة. لكن الأمل ينتظر من يطلبه. ينتظر وراء المنعطف. لا يرد النور رجلاً يسعى إليه. لا تكن صاحب خطط. لا تكن صاحب مجد. لا تكن طالب شهرة. النور ينتظرك في غرفة ساكنة موصدة. لم يجد كافكا نفسه إلا هناك. في اعماق قبوه الخيالي الذي لا يُحد. ممدداً في سرير تحت امطار لشبونة، كان يستطيع فرناندو بسِّوا ان يجول بقاع العالم حتى ينشق جسمه ضجراً. من قلب الضجر خرج خمسة شعراء وكتبوا من اجل بسِّوا - من اجلنا - كل تلك اليوميات والتأملات والقصائد. نعبر حقولاً مظلمة. لكن الأمل نور الكلمة ينتظرنا دوماً في غرفة هادئة. لا حاجة حتى لأن تكتب. افتحْ الكتاب واقرأ. ان لم تمنحك القراءة امتلاء الحياة الحقة، لن تعرف يوماً هذا الامتلاء. ليس هذا نقداً. ليس هجوماً على احد. ليس هجاء. لا يطمح ان يكون هجاء. الواحد يرى ثم يُحدث ذاته. سببٌ غامضٌ يدفعنا الى الحديث مع آخرين ايضاً. ليكنْ الصوت منخفضاً. الصخب يُضيع المعنى. مثله مثل هدير الأسماء والمهرجانات والإعلانات والصور. نحكي بلا توقف عن ازمات تضرب الثقافة العربية. لنتوقف لحظة ونتأمل كلامنا المنطوق والمكتوب. ألا يكون هذا السيل المتدفق جزءاً من تردي الحال؟ وسبباً ربما! بعض الصمت. الجلوس في غرفة مقفلة مع كتاب. أو في الطبيعة. بعض الصمت. والكثير من القراءة. القراءة والانفتاح على ثراء العالم اللانهائي. ثم يبين نور.