اعتادت أندونيسيا، ولقرون خلت، على استقبال وجوه عربية تبحر إليها بالقوارب، سياح وتجار ودعاة إلى الله، وهذه القوارب هي التي حملت الدين الاسلامي والحضارة العربية إلى هذا الارخبيل المترامي في جنوب شرقي آسيا. إلا أن القوارب تحمل في قرننا هذا بضاعة وتجارة لم تألفها، تجارة البشر الباحثين عن أرض الاحلام، والهاربين إلى مستقبل أفضل، يتجمعون على شطآن أندونيسيا، في انتظار عبور المحيط الهندي إلى أستراليا، فرحلتهم قصة، وركوبهم البحر فيه قصص أخرى، وأكثر منها قصص الهائمين في شوارع جاكرتا وأزقتها، ينتظرون الفرج من مفوضية اللاجئين. اللاجئون العرب، وهم في جلهم من العراقيين، يعيشون معاناة مركبة في أندونيسيا، وهي لم تكن في يوم وجهتهم أو الجنة التي هربوا من جحيم بلادهم لينعموا فيها، وإنما كانت محطة استراحة ومعبرًا لاستراليا، الجنة الموعودة. في جاكرتا اليوم نحو 400 حالة لجوء عربية معظمهم من العراق لدى مفوضية اللاجئين التابعة للامم المتحدة، وغيرهم الكثر الذين لم تتم مقابلتهم أو قبولهم بعد، وبعضهم غامر بركوب البحر فوصل إلى إستراليا، لكن في المقابل استقر 365 منهم في قاع المحيط... فهي قصة الآلاف دفعتهم ظروفهم، أو دفعوا أنفسهم لهذا المصير، فالنتيجة واحدة ، مأساة إنسانية لا تزال فصولها تجرى في الارخبيل الاندونيسي، وقد زارت الحياة تجمعًا من هؤلاء اللاجئين في مدينة بوغور القريبة من جاكرتا، استمعت إلى قصصهم وعايشت معاناتهم اليوم، وتخوفهم من الغد... هل هؤلاء لاجئون أم مهاجرون غير شرعيين؟ هذا هو السؤال، والقضية التي تشكل همًّا لمئات العراقيين، الذين لاذوا بالمناطق الرخيصة سكنًا ومعيشة في جاكرتا وبوغور تشي سروة 80 كم جنوبجاكرتا، وتصنيفهم يرسم لهم نمط الحياة التي يعيشون في أندونيسيا، فاللاجىء المسجل لدى مفوضية اللاجئين يحصل على راتب شهري، يساعد بطريقة أو أخرى في تمضية أيام الانتظار التي قد تطول في أندونيسيا، أما المهاجر غير الشرعي، والذي لا يوفق في الحصول على موافقة الاممالمتحدة، فإن منظمة آي أو إم التي تعنى باللاجئين توفر له المسكن وثلاث وجبات فقط، بانتظار حصول تطور في ملفه لدى الاممالمتحدة، وبحسب احصاءات المفوضية العليا للاجئين في أندونيسيا، فإنه من بين 1600 مهاجر غير قانوني دخلوا البلاد، قبل 492 منهم كلاجئين مسجلين لدى المفوضية، ويقدر عدد الذين سفِّروا حتى اليوم الى بلدان الهجرة بنحو 150 حالة موزعين بين كندا، أستراليا، نيوزيلندا، والدول الاسكندينافية... والبقية لا تزال تنتظر دورها لهذه الرحلة-الامنية... وإن كان هؤلاء يغالبون اليأس بالامل، فإن العشرات لا يجدون إلا اليأس يقتاتون عليه، بعد أن رفضت مفوضية اللاجئين طلباتهم للمرة الثانية، مما يفقدهم الحق في تقديم طلب اللجوء من جديد، وهم الذين لا يستطيعون العودة إلى بلدانهم، فكيف يمكن هؤلاء أن يرسموا أو يتخيلوا مسار حياتهم المستقبلي في ساعات الخلوة والتفكير الطويلة؟ وهو مسار يبدو أشبه بمتاهة جدارية مسدودة المنافذ. عيش الكفاف الذين جاؤوا بعائلاتهم، أو لحقت عائلاتهم بهم، تتفطر قلوبهم على أحوال أبنائهم، الذين حرموا من المدارس لعامين، وحرموا من المعيشة اللائقة لأطفالهم، وحرموا من كل شيء إلا من الحاجة، ويخشى أبو طه لديه ثلاثة أطفال أن يلعنه أبناؤه في المستقبل لانه أحضرهم إلى أندونيسيا، واضطرهم إلى حياة القسوة والحرمان، ويقول بقيت سنة لوحدي قبل أن أحضر عائلتي بشق الانفس، ومنذ أن جاؤوا لم أتمكن من شراء شيء لابنائي أو زوجتي، حتى إنني لا أصطحب ابني إلى السوق، حتى لا تقع عيناه على شيء يشتهيه ولا اشتريه له، لذلك لا آخذه معي. أما ما يصرف لابي طه من المفوضية فيقول عن ذلك: يصرفون لعائلتي كاملة ما يعادل 130 دولارًا، بعد أن تشاجرت معهم، أدفع منها 50 دولارًا إيجارًا للبيت، فماذا سأفعل ب80 دولارًا لزوجتي وثلاثة أولاد؟ في بلد ترتفع فيه الاسعار في شكل سريع، وأنا أكثر المحظوظين هنا وأقرأ المعوذتين كل يوم خشية الحسد على هذه المعونة، لأن عائلات أخرى لا تستلم نصف ما استلمه. ولا يبدو في ذلك مبالغة، فالحاج شهرتاني 66 عامًا ، يعيش في غرفة مساحتها 12م2 ، ويحتل المطبخ زاوية من الغرفة وحيزًا لا بأس به منها، وليس فيه سوى موقد يعمل على الكاز والى جانبه كيس من الارز، يشكل الوجبة الرئيسية له. يدفع شهرتاني 400 ألف روبية قرابة 45 دولارًا أجرة لهذه الغرفة، وهو مبلغ كبير بالنسبة إلى لاجيء مثله، لا تقدم له الاممالمتحدة سوى 520 ألف روبية 60 دولارًا تقريبًا كمساعدة باعتباره لاجئًا مسجلاً لديها، أما زوجته وطفلاه، فلا يتلقون مساعدة مالية من الاممالمتحدة، لانهم لم يمض على وجودهم في أندونيسيا سوى عشرة أشهر، وهم غير مصنفين بعد كلاجئين قانونيين، وعلى هذه الانفس الاربعة، أن تعيش على قرابة 15 دولارًا طوال الشهر. وكان شهرتاني قد دفع 3 آلاف دولار التي جمعها بالكاد بعد أن باع بعض أثاث بيته، ومساعدات من بعض الاقارب والاصدقاء، تكفيه حتى يصل إلى الشواطىء المطلة على أرض الاحلام أستراليا ، ولكنه يعيش الآن السنة الثانية على هذه الشواطىء في انتظار العبور إلى الارض الموعودة. أما أبو أحمد فيتلقى 1.3 مليون روبية قرابة 150 دولارًا يدفع منها 800 ألف روبية إيجار البيت، وعليه أن يتدبر أموره، هو وستة من أفراد أسرته ب500 ألف روبية لشهر كامل، وتتضاعف الحالة سوءًا إذا مرت ظروف طارئة كمرض وغيره على هذه الاسرة، إذ عانت زوجته من أزمة في القلب، فدفع 125 ألف روبية لشراء نصف الوصفة الطبية التي تحتاجها، لان ليس بمقدوره شراء الوصفة كاملة، لغلاء ثمن الدواء في أندونيسيا. ويبقى أبو طه وأمثاله، أقل بلاء وحسرة من الذين أمضوا سنتين في جاكرتا، وعائلاتهم في سورية أو إيران، ولم يتمكن حتى اليوم من إحضارهم، وليس لديهم من يعيشون عنده، فهو يعيش الحرمان في ذاته، والقلق كل ساعة على معيشة عائلته وأمنها، وقد عرض هؤلاء على المفوضية إحضار أهليهم على نفقتهم الخاصة على رغم صعوبة ذلك على أن تسهل الاممالمتحدة أمر الاوراق الرسمية لكنها لم توافق. فلم يجد بعضهم بدًا من المجازفة بإحضار عائلاتهم إلى ماليزيا أو تايلاند ومنها يهربونهم بقوارب إلى أندونيسيا، بما في ذلك من مخاطرة، لكن كان ذلك هو الخيار الوحيد أمامهم. أحدهم لم يحتمل بقاءه هنا طوال هذه المدة، وعائلته لوحدها في سورية، ليس لديها من يعيلها أو يحميها، فطلب من الاممالمتحدة تسهيل عودته إلى سورية على نفقته، فتدبر المبلغ، لكنه لم يسمح له بدخول سورية، واحتجز في المطار ثلاثة أيام، ثم أبعد إلى دبي، ولم يسمح له بدخولها أيضًا، فقامت الاممالمتحدة بإرجاعه إلى أندونيسيا. الرحلة مع مفوضية اللاجئين مشكلة اللاجئين، كما يعتقدون، تكمن في مكتب مفوضية اللاجئين في جاكرتا، فهو الذي دعاهم إلى مساعدتهم في إيجاد بلد يلجأون إليه، ورسم الامل أمام أعينهم في فرج قريب، ثم ماطل على مدى عامين، ولا يبدو الامل يلوح حقيقة على أرض الواقع، يقول أوس 35 عامًا: كنا في كوبان 67 شخصًا، وكنا مسجلين عند الاممالمتحدة هناك بعد أن دعانا المكتب إلى العدول عن فكرة ركوب البحر والبحث عن اللجوء في شكل رسمي وقانوني، ووقع حادث قتل خمسة من موظفي الاممالمتحدة من تيموريين، فحذرت دائرة الهجرة الاممالمتحدة بعدم مسؤوليتها عن الاجانب نحن في تلك المنطقة، فأرسلت الاممالمتحدة طائرة خاصة نقلتنا إلى جاكرتا، ووضعونا في السجن، فبقينا فيه بضعة أيام ثم كسرنا السجن، وخرجنا، ولم يعترضنا رجال الشرطة، لانهم كانوا متعاطفين معنا، فقد كان بيننا أطفال، كان بعضهم أمضى سبعة أشهر مثل علي الذي لا يتجاوز عمره السنة، وهذا الطفل أخذه والده بعد خروجنا من السجن وركب البحر إلى استراليا، ولا نعلم هل وصلوا أم غرقوا. ومن صور الشكوى التي يوجهها هؤلاء اللاجئون إلى مكتب المفوضية، محاولة الالتفاف على القوانين الاندونيسية، للتغطية على تقصير المكتب في عمله، يضيف أوس: تعطينا الاممالمتحدة هنا شهادة تسجيل وحماية، تسمح لنا بالتجول في جاكرتا وضواحيها، ولا تصلح للاستعمال خارج هذه المنطقة، وصلاحيتها لستة أشهر فقط، يقومون بتجديدها وإعطائنا شهادة جديدة، وكأنها أول شهادة حتى يوهموا السلطات الاندونيسية أننا لم نتجاوز فترة الستة أشهر، لان القانون يشترط تسفيرنا إلى بلد اللجوء في أقل من ستة أشهر، ولكننا قدمنا صورًا عن الشهادات القديمة لاعضاء البرلمان الاندونيسي ليتأكدوا أننا أمضينا عامين ونحن ننتظر من دون فائدة من الاممالمتحدة، فهذه لعبة الاممالمتحدة معنا. أما لماذا يختار العراقيون تحديدًا خط أندونيسيا - أستراليا، بحثًا عن وطن اللجوء؟ فالامر يفسره أبو طه بقوله: البلدان الوحيدان الذان يسمحان للعراقي بدخولهما من دون تأشيرة ، هما الاردنوماليزيا، ومن السهل الدخول من ماليزيا إلى أندونيسيا، بالطبع تهريبًا، ومن أندونيسيا فالحدود البحرية شاسعة، ومن اليسير التسلل منها إلى شواطىء أستراليا، وتايلاند خيار آخر بدلاً من ماليزيا إذا حصل على تأشيرة منها، والمهربون معروفون للجميع، والسلطات الاندونيسية والاممالمتحدة تعرفهم جيدًا، وقد اعتقل أحدهم مؤخرًا وهو أبو قصي ، مصري، يساعده اثنان عراقيان، وهم المسؤولون عن غرق السفينة التي راح فيها 365 شخصًا، ومتورط معهم عدد من ضباط الامن والمهربين الاندونيسيين. خبرة في الوقت الضائع عملية التهريب، هي بالطبع لعبة واستغلال، يلعبها المهربون بالتعاون مع أطراف متنفذة في المنطقة، ويستغلون الحالة النفسية للاجيء الذي يشعر أن بقاءه في بلد العبور مثل أندونيسيا يشكل عليه خطرًا في كل ساعة يطيل مكوثه فيها، فهو لا يرى أمامه سوى شطآن الأمان التي يقصدها، والتي ينبغي أن يصلها تحت أي ظرف وفي أسرع وقت، حتى لا يذهب كل ما فعله هباء، أبو طه يزعم أنه فهم لعبة التهريب، وتعلم من طول مكوثه في أندونيسيا، وخبرات الذين غامروا وقبلوا بالتهريب، وتجارب الذين فشلوا، كيف يمكن أن تنجح عملية التهريب ولماذا تفشل، وتستقر الرحلة في قاع المحيط، فيقول: أنا الآن بعد هذه التجربة والخبرة أعرف كيف أصل إلى أستراليا بأمان، فما بين شهري نيسان ابريل وأيلول سبتمبر يمكن قطع البحر بين أندونيسياوأستراليا على لوح خشب من دون خوف، لان البحر يكون هادئًا للغاية، أما من تشرين، الأول أكتوبر وحتى شباط فبراير فالسفر بزوارق التهريب غير آمن، لان حال هذه الزوارق تكون سيئة وتحمل بأضعاف طاقتها من الركاب، لكن الذي يصل جديدًا ويكون جاهلاً بحقيقة الوضع فإنه يقع فريسة استغلال المهربين عديمي الضمير والانسانية، فالرحلة بالزورق تكلف في الحالة الطبيعية نحو 50 دولارًا، لكن المهربين يستغلون جهل اللاجئين وخوفهم من القبض عليهم، فيتقاضون حوالى 2000 دولار على الشخص، وربما اتفقوا مع بعض عناصر الشرطة في مقابل مبلغ، للتمثيل وإخافة اللاجئين حتى يعجلوا بتهريبهم تحت أي ظروف وفي مقابل أي مبلغ. فسألته: وبعد أن عرفت لعبة التهريب لماذا لم تحاول السفر بالبحر بطريقة آمنة؟ فقال: بالطبع الافضل لي أن أحصل على لجوء من طريق الاممالمتحدة وفي شكل رسمي، ونحن نبقى على أمل أن تصدق معنا الاممالمتحدة، كما أن معي زوجتي وأطفالي، فلماذا أغامر بهم وهناك طريق آخر أكثر أمنًا، فكل ما علينا هو الانتظار والصبر. وأنا سبق لي أن غامرت بركوب البحر قبل قدوم عائلتي، ووصلنا قريبًا من أستراليا، لكن صاحب القارب واسمه منصور، أحس بقرب هبوب عاصفة فعاد مباشرة إلى أندونيسيا، وبالفعل هبت عاصفة قوية جدًا، والحمد لله نجونا منها، وكنا وقتها 65 شخصًا غير الاندونيسيين، لكن هناك بالطبع عائلات وشباب كثر دخلوا إلى أستراليا بالقوارب، أعرف المئات منهم، لكن بالطبع هناك من غرق في منتصف الرحلة. انتظار الموت والنجاة منه المرض والموت بسبب الحاجة وعدم الاهتمام بهذا التجمع البشري، أحد الزوايا السود في حياة هؤلاء اللاجئين، حسين 34 عامًا، يقول: أنا آخر من تبقى ممن يعانون من أمراض مزمنة، فقد توفي البقية، بعضهم في منازلهم والبعض في المستشفيات، هذا إضافة إلى وفيات من النساء أثناء الولادة، أو وفيات الاجنة والمواليد الجدد، فهذه حالات كثيرة، وأنا أعاني من تآكل في المفاصل، فلا أستطيع الحركة في صورة سليمة، ولا أجد القدرة على العلاج بسبب الظروف المادية الصعبة. الذين يعانون من حالات مرضية مزمنة بخاصة، لا يتلقون أي مساعدة إضافية أو علاج لهذه الحالات، على رغم أن الاممالمتحدة هي التي صنفت هذه الحالات على أنها خاصة، وأحد المصنفين في هذه الخانة بلغته الاممالمتحدة بقبوله كلاجيء في الدنمارك بعد وفاته. ويضيف حسين: وأنا الآن قدمت أوراقي إلى هولندا للم الشمل مع أقاربي هناك، ويحتاج الامر لثمانية أشهر، وأنا في حالتي المرضية هذه، فهذا موت بطيء، وقد لا أبقى حتى تصلني الموافقة. حالة أخرى يرويها عبدالامير الذي توفيت ابنته في شهر كانون الثاني يناير من هذا العام في مستشفى بوغور: احتاجت ابنتي، 12 عامًا، إلى جراحة، تكلفتها 300 دولار، وقابلت مكتب الاممالمتحدة خمس مرات على مدى ثمانية أشهر، للحصول على الموافقة لاجراء الجراحة، ولم أتمكن من الحصول عليها. وعندما اشتد المرض عليها نقلناها إلى المستشفى، ووضعوها في قسم الطوارىء، لكن الطبيب لم يكن موجودًا، فاتصالوا به بالهاتف ليشخص حالتها من دون أن يراها، ولم يكلف نفسه الحضور إلى المستشفى للكشف عليها، وبقيت من الثامنة صباحًا وحتى السادسة مساء، حتى توفيت، على رغم أن أخانا هادي وهو طبيب عرض عليهم أن يعالجها ولكنهم رفضوا، وبعد وفاتها وضعوها في غرفة قذرة أقرب إلى المطبخ، وعندما دخلنا عليها وجدنا عندها قطة والنمل على جثتها، وذهبت إلى الاممالمتحدة والمسؤول عن حماية اللاجئين، وقلت له، أي حماية تقدمونها، فهذه ابنتي قتلت، فأين حمايتكم، أنتم مكتب قتل اللاجئين، وليس حمايتهم... وابنتي ليست الاولى، فقد توفيت ابنة أخ اسمه علوان ، وابنة أخ فلسطيني، وللسبب نفسه، الاهمال من المستشفى، وعدم الاكتراث من الاممالمتحدة. أما الذين كانوا بين فكي الموت ونجاهم الله منه، فقصصهم تطول، وقد تكون أكثر مأسوية من الذين توقفت حياتهم في منتصف الطريق بين أندونيسياوأستراليا. زينب عمرها 12 سنة، وعلى رغم أنها نجت من الموت بأعجوبة، إلا أنها تبقى شاهدة حية على مأساة إنسانية، فقد كانت مع والدها ووالدتها وأخويها، وخلفتهم جميعًا وراءها في قاع المحيط مع 365 نفسًا أخرى، معظمهم عراقيين وبينهم إيرانيون وفلسطينيون وجزائريون، بعد أن غرق القارب الذي يهربهم في تشرين الأول 2001، ولم ينج منه سوى 44 شخصًا، وتشبثت زينب بلوح خشب، خيط الامل الذي ألقاه القدر أمامها، تعلقت به لعشرين ساعة، إلى أن قدر لهم النجاة بفضل قارب صيد أندونيسي، وبقيت لوحدها في أندونيسيا قرابة أربعة أشهر، وبعد إثارة قضيتها بوسائل الاعلام في أندونيسياوأستراليا، سمح لها، استثناء، بالالتحاق بخالها المقيم في أستراليا في مطلع شباط الماضي. الذين نجوا من كارثة هذا القارب قلة قليلة، أحدهم حمل ابنه ذا الاربعة أعوام على أكتافه في عرض البحر لعشرين ساعة، وقال للذين التقاهم في أندونيسيا، كانت تتنازعني أفكار شيطانية أن أغرق نفسي وابني في البحر ونستريح، لانني لم أعد قادرًا على حمله طوال هذا الوقت، وعندما يناديني ويشكو لي تعبه، أتجلد وأقاوم إنهاكي ليعيش، ولم أكن أجد من قيمة للحياة سوى أن ينجو ابني. امرأة أخرى، لم تجد ما تنجو به من بطن البحر، سوى جثة امرأة توفيت وطفت على سطح البحر، فتعلقت بها، وبقيت كذلك حتى وصلت إلى الشاطىء، أما أم كوثر ففقدت زوجها وابنتيها أمام عينيها، وكانت حاملاً بطفل، فنجت، ووضعت مولودها الذي تعيش به ومن أجله حتى اليوم في جاكرتا، وقد عادت بطفلها إلى أهلها في العراق بعد أن ملت انتظار ما لا يأتي. ويعاني الذين نجوا من قارب الموت درجة أو أخرى من حالات الكآبة والاحباط تصل في بعض الاحيان درجة المرض النفسي، وسعد، أحد هذه الحالات، إذ عانى من الاحباط النفسي، وأدخل مستشفى بي أم آي للامراض العقلية في بوغور، لمدة شهر، أما حلوان ، 35 عامًا، فقد انتهت معاناته من الاحباط النفسي إلى الموت إثر سقوطه من فوق جسر مشاة في شارع تامرين، أحد أكبر الشوارع في جاكرتا، البعض يقول إنه سقط تحت تأثير حالة دوران أصابته، والبعض يقول إنه أقدم على الانتحار بسبب ظروفه القاسية، وعولج في المستشفى لايام عدة، إلا أنه توفي بعدها متأثرًا بجراحه. قصص هذا القارب لا تنتهي، ولا تنتهي المأساة، بعد أن نجا من سيبقى يروي ويعيد رواية هذه التجربة البشعة، لكن هذه التراجيديا غدت أمنية عند بعض اللاجئين في جاكرتا وبوغور، وحتى اليوم لا يزال في جاكرتا ستة من الذين نجوا من حادث القارب، والبقية رحلت الشهر الماضي إلى البلدان التي قبلتهم كلاجئين.