كانت مفاجأة المطربة فيروز في بيت الدين هذا السنة عودة الى قديم الأخوين رحباني والاكتفاء بقليل من جديدها، بينما انسحب زياد الرحباني الى "الكواليس" مكتفياً بوضع اللمسات الأخيرة على الألحان "ومولّفاً" بعض الصيغ الغنائية والموسيقية. بدت الأغنيات التي لحّنها وكتبها الاخوان رحباني قديماً أشبه بهدية قدّمتها فيروز الى جمهورها الذي فاق العشرة آلاف خلال السهرتين وغدا متعطشاً الى مثل هذه الأغنيات المحفورة في ذاكرته بعدما هيمنت أغنيات زياد على معظم الحفلات السابقة. إلا ان الجمهور صفّق كثيراً لأغنيات زياد القليلة التي انتقتها فيروز وطرب لها وتفاعل معها وخصوصاً أغنية "سلّملي عليه" الشرقية الطابع. وإن جرى كلام كثير عن انسحاب زياد هذه السنة من الحفلتين وعن خلاف بينه وبين فيروز فهو فعلاً لم يحضر الى بيت الدين لكنّه انكبّ طوال الأيام الأخيرة على وضع الصيغة النهائية لأغنيات الحفلتين وللمقطوعات الموسيقية، وكانت مشاركته تقنية صرفة ومن بعيد على رغم بروز بعض لمساته توزيعاً وجملاً موسيقية. أما السبب الرئيس لانسحابه فهو عدم رضاه على الفرقة الموسيقية التي تألفت هذه السنة من 25 عازفاً فيما ناهزت في السنتين الماضيتين أكثر من 75 عازفاً. وكان واضحاً هذه السنة ضعف الفرقة الموسيقية وعدم تجانسها اذ تألفت من لبنانيين وسوريين وأرمن. وجلس أمام البيانو الذي عزف عليه زياد سابقاً عازف شاب خضر بدران لم يستطع ملء غياب الرحباني الإبن. وغابت عن الفرقة الآلات التي طالما ميّزت أعمال زياد تلحيناً وتوزيعاً وفي مقدّمها آلات النفخ وسواها. غير ان فيروز استطاعت وحدها وبصوتها المتجدّد ان تملأ الفراغ الذي تركته الفرقة الموسيقية والذي لم يبال به الجمهور أصلاً. غنّت فيروز بعذوبة وشفافية مستعيدة صوتها الساحر ذا النبرة العريضة والمشبعة والذي تجلّى في أجمل الأغنيات الرحبانية القديمة والجديدة أبداً... من عمق الذاكرة أيقظت فيروز أغنيات كان لها وقع حارق وجميل في وجدان الجمهور "المخضرم": "أمي نامت عَ بكّير"، "يا ربوع بلادي"، "بيسان"، "شادي"، "في قهوة عَ المفرق"، "طريق النحل"، "حبّيتك بالصيف"، "القمر بيضوّي عَ الناس"، "مراكبنا عَ المينا" وسواها من "الريبرتوار" الرحباني الذي استطاع ان يخترق الزمن منفتحاً على المستقبل ومتجدداً أكثر فأكثر. مثل هذه الأغنيات يصعب ان تمسي من الماضي حتى وإن طغى زمن الأغنية الاستهلاكية... وما ان سمعها الجمهور حتى هبّ مردداً ومصفّقاً وهاتفاً لفيروز والرحابنة. وفي ختام الحفلة اضطرّت فيروز ان تعود الى المسرح أربع مرّات لتغني من جديد بعدما اشتعلت الصفوف حماسة وهتافاً. ليلتان من ليالي الحنين الصرف، من الشوق الحارق الى زمن فيروز والأخوين رحباني، والى الأغنيات الجميلة التي لم تضاهها طوال تلك السنين أي أغنيات... وكم أصابت فيروز في جعل موعدها هذه السنة رحبانياً بامتياز وفي انفتاحها على الجمهور الكبير وعلى ذائقته وذاكرته. لكنّ طغيان أعمال الأخوين رحباني لم يلغ حضور أغنيات زياد وراح بعض الجمهور الفتيّ يبحث عنه على الخشبة متسائلاً لماذا غاب. سر المفاجأة الفيروزية تجسد خصوصاً بأغنية "بيسان" التي أدتها للمرّة الأولى على المسرح ضمن الأغاني الفلسطينية، فهذه الأغنية التي لم تؤدها في السابق في أي من حفلاتها ظلّت وقفاً على التسجيل اليتيم في "ألبوم" فلسطين.