التقيته صدفة عند أحد الأصدقاء، ولم أكن أعرفه من قبل: رغيد النحاس ناشر مجلة "كلمات" ورئيس تحريرها، انها المجلة التي تمثل تلك الومضة الساطعة لأنها انطلقت من مفهوم المجتمع الاسترالي عامة نافذة الى عمق الحياة الانكلوساكسونية والثقافات المتعددة الأخرى التي تكّون استراليا الحديثة، من دون أن تنس عن التراث العربي الذي تحتفل به ليكون عنصراً فاعلاً في صنع الحياة الحديثة في هذه القارة. المجلة في أهدافها تجسيد لإيمان محررها بضرورة احداث ثقل في ما يسمى "الساحة الاغترابية"، لدرجة ان النحاس يعتقد بأنه لن يحدث مثل هذا ما لم يعزز العرب في استراليا هويتهم الاسترالية اضافة الى محاولتهم الحفاظ على أصولهم وتراثهم. إيمان النحاس هذا ليس وليد فكرة مزاجية أو بذخ فكري. فالرجل وصل ضمن المؤسسة الاسترالية الانكلوساكسونية الى مناصب علمية وادارية رفيعة حين كان رئيساً لقسم علوم البحار في وكالة حماية البيئة في فيكتوريا، ورئيساً لقسم السواحل في مؤسسة مياه سيدني حيث مارس هذا العمل سنوات عدة ووصل فيها الى مرتبة مدير ممتاز. وحين تقاعد من عمله هذا، واصل نشاطه في شكل حر إضافة الى عمله في الترجمة والتعددية الثقافية وفي قسم الإعاقة لدى هيئة الضمان الاجتماعي الفيدرالية. تفتحت براعم الأدب لدى النحاس منذ صباه على رغم انشغاله الكلي بالتخصص العلمي في الجامعة الأميركية في بيروت، ثم حصوله على الدكتوراه من بريطانيا، وعمله لدى برنامج الأممالمتحدة للبيئة، وترؤسه أبحاثاً ومجموعات في المؤسسات السورية التي عمل لديها قبل حضوره الى استراليا. وكان من أهم منعطفات حياته قبول الدكتور سهيل إدريس نشر قصة قصيرة له في مجلة الآداب عام 1978، لأنه أي النحّاس رأى في النشر في مجلة مثل "الآداب" دفعاً قوياً في المجال الأدبي. لكن وقته لم يسمح له بالمتابعة التي يريدها. تحمل المجلة اسم "كلمات"، وتوصف في أنها دورية عالمية للكتابة الابداعية بالانكليزية والعربية. التقيت بالكاتب رغيد النحّاس في سيدني وحاورته في شأن المجلة والأدب الاغترابي في أستراليا في محاولة لإلقاء مزيد من الضوء على هذه التجربة التي دخلت منتصف عامها الثالث. فضلاً عن الدافع الأساس وراء اطلاق "كلمات" من أجل توصيل الثقافتين العربية والانكليزية الى القراء، ولا بد من وجود دوافع أخرى فما هي؟ - "كلمات" مجلة أدبية فكرية في الدرجة الأولى، مهمتها الأساس الاحتفاء بالابداع بواسطة الكتابة الابداعية. يتوازى هذا مع التواصل بين الثقافات حتى يتشارك الجميع في التنعم بجمال الكلمة التي نعتبرها باب الإرث الحضاري، كما نعتبر الكتابة مفتاح ديمومته. وهذه العبارة هي شعار مجلة "كلمات". تصدر المجلة أربع مرات في السنة: عددان باللغة الانكليزية في شهري آذار مارس وأيلول سبتمبر، وعددان باللغة العربية في شهري حزيران يونيو وكانون الأول ديسمبر. ونحن نعتبر ان هذه الطريقة تدعم التواصل وتساعد على ترويج الأعمال الابداعية. فالعدد العربي غير العدد الانكليزي، أي ليس ترجمة مباشرة له، والعكس صحيح. ونركز في العدد الانكليزي على ترجمات لأعمال من اللغة العربية حتى تنتقل الى القارئ الانكليزي، كما ننقل من النصوص الانكليزية الى العربية في العدد العربي حتى يتعرف العرب على أعمال الناطقين باللغة الانكليزية، وخصوصاً الاستراليين. ننشر الأعمال الأصيلة، غير المنشورة سابقاً، بلغتها الأصلية. أما الترجمات فننشرها فقط إذا كان العمل الأصلي منشوراً سابقاً. هذا الأسلوب يعني المحافظة على النوعية العالية للمواد التي تنشرها المجلة، خصوصاً أننا نرسل المواد التي تردنا للتقويم والتحكيم قبل قبولها للنشر. وتكرّم "كلمات" المبدعين، إضافة الى نشر أعمالهمم، بالتحدث عنهم عبر مقالات وتحقيقات ومقابلات. لك الكثير من المنشورات والمطبوعات الأدبية والثقافية قبل "كلمات". لماذا استقر الحال بك عندها؟ - يقتصر معظم نشراتي السابقة على المجال العلمي، ومجال تبسيط العلوم، وبعض القصص القصيرة والمقالات وكثير من الترجمات في مجالات مختلفة. "كلمات" تختلف في أنها تكاد تكون مؤسسة بحد ذاتها، نتحمل فيها مسؤوليات جساماً تجاه الكتّاب والقرّاء والأنصار. ولا يمكن القول إن الحال "استقر" عليها، لأنها تبقى جزءاً من نشاطات شتى أقوم بها، كما أن استمرارها رهن بعوامل ومقومات عدة. - أدّت "كلمات" دوراً مميزاً من ناحية انطلاقها من استراليا، ضمن مناخ من الحرية والديموقراطية الفكرية، فاستجاب للتعامل معنا كثر من الاستراليين والعرب والأميركيين والأوروبيين من مختلف الأجناس والروافد الفكرية. على سبيل المثال اشتركت جامعة "يال" الأميركية العريقة اشتراكاً مفتوحاً في "كلمات". ويساهم في الكتابة معنا رهط من الكتّاب المعروفين والناشئين، معتمدين أساساً على قيمة العمل النوعية، ومولين عناية خاصة بترويج أو تبيان أعمال الكتّاب الناشئين، ونحن نعتبر هذا أهم تحدياتنا. ويمكن القول ان معظم الذين ننشر لهم يبرزون في الوسط "الآخر". أي صاحب العمل المكتوب بالانكليزية يبرز لدى العرب حين نترجم له أعماله أو نتحدث عنه. ويبرز العربي لدى الغرب حين ننقل عمله الى الانكليزية. والواقع اننا نلمس أهمية ذلك باستمرار عن طريق الاستفسارات التي تردنا عن المواد التي ننشرها. هذا التنوع والغنى في المواد التي تضمها "كلمات": شعر، قصّة، مقالة، نقد، مراجعة... يحتاج الى جهود مجموعة من العاملين على مستوى الترجمة باللغتين. من يقف الى جانبك في هذا العمل المضني؟ نشجع ونقبل أعمال المترجمين الآخرين للنشر في "كلمات"، بل نفضل ذلك على نشر ترجماتنا الخاصة فيها. ولكن حتّى الآن يقع العبء الأكبر في هذه العملية، عليّ شخصياً. ويقوم مستشار المجلة انويل عبدالأحد المقيم في الولاياتالمتحدة، وأحد أهم مترجمي كتاب "النبي" لجبران، بترجمات شعرية كثيرة أيضاً إضافة الى دوره في مراجعة الترجمات والأعمال المقدمة للنشر. ويسعدنا ان بوادر اسهامات الآخرين بدأت تطل علينا فنجد في العدد العاشر الذي صدر أخيراً ترجمات شعرية لمنصور العجالي، كما سبق للصحافي عدي جوني ترجمة قصة الى اللغة الانكليزية. والعملية تشتمل أيضاً على المراسلات والمراجعات والتنسيق مع المستشارين والتحرير والتصميم والتنضيد والاخراج والانتاج والتوزيع والإعلان والتعامل مع وسائل الإعلام الأخرى. ولا تتوافر لنا الكوادر اللازمة لكل ذلك. ثمّة تجارب عربية وعالمية تتقاطع "كلمات" معها - أعني على صعيد المجلات الأدبية مثل "الكرمل" و"الآداب" و"نزوى" وسواها. أين تقف "كلمات" من هذه التجارب؟ ما زالت "كلمات" جنيناً ينمو، ومن الصعب مقارنتها حالياً مع مجلات عملاقة في العالم العربي. ولكن ما يميزها ويضعها في خانة فريدة هو أنها تنطلق من استراليا وتأخذ بعداً عالمياً من دون ان تكون "مهجرية" بالمعنى التقليدي. كما ان المشرفين عليها ذوّاقون للأدب وليسوا من محترفيه. وهذا، في رأينا، ميزة لأن أحد أهدافنا توصيل الإبداع الراقي من دون التعقيد الأكاديمي. ألا ترى ان التخصص في نوع أدبي معين: شعر، قصة، مسرح... قد يعطي المجلة هوية خاصة؟ لا أعتقد ذلك بالنسبة لوضع "كلمات" وموقعها جغرافياً وتاريخياً. وكما ذكرت سابقاً نحن نحتفل بتواصل الفكر الابداعي، والتواصل يعني التواصل بين أنواع الأدب والفكر المختلفة. من ناحية ثانية، نرى أن لكل مجلة دوراً يمكن ان تلعبه سواء أكانت متخصصة بنوع واحد أو متنوعة. نحرص على التعامل مع كل الأنواع والفنون الأدبية والفكرية لنضمن أكبر تغطية ممكنة للمبدعين، وهذا أمر بالغ الأهمية خصوصاً بالنسبة للعرب بعامة، والعرب المنتشرين في بلدان العالم بخاصة. ونعتبر هذه التغطية جزءاً مهماً من رسالتنا في ابراز الوجه الحقيقي للعرب الذين يحملون إرثاً حضارياً ويتمتعون بمقدرات فكرية. ما هي الصعوبات التي واجهتك، وما هي الايجابيات والسلبيات؟ - الصعوبات هي في تكريس الوقت والمال الخاص في سبل هذا العمل. أما السلبيات ففي عدم تمكننا حالياً من مكافأة الكتّاب والمستشارين مادياً. والايجابيات تكمن في تأييد نخبة مهمة من المفكرين والأكاديميين والمبدعين للمجلة. أما على الصعيد الشخصي فصارت "كلمات" أهم هواياتي، فيكون الأمر بذلك ايجابياً. ما هي الأصداء التي أحدثتها "كلمات" في عالمي الثقافة الاسترالية - الانكليزية، والعربية؟ - الحكم في هذا أفضل تركه للآخرين، ولكن هنا أيضاً أقول ان المجلة ما زالت حديثة العهد وربما تمضي سنوات قبل ان نستطيع الاجابة عن مثل هذا السؤال. لكنّ هناك بوادر واعدة. فحين نشرنا عن الشاعر الأميركي لويس سكُت الذي يعود الى أصول أفريقية ويقطن حالياً في نيوزيلندا العدد 4، وعن كاتب القصة القصيرة الاسترالي غريغ بوغارتس العدد 6، وكاتب القصة الاسترالي من أصل أبوريجيني بروس باسكو العدد 8 انهالت علينا الاستفسارات والاطراءات. فبعض الأميركيين أعرب عن اعجابه باكتشاف أميركي من طريق مجلة تصدر في الطرف الثاني من العالم. كما أن عدداً كبيراً من العرب في استراليا وسورية وسواهما بلغونا عن تقديرهم لهؤلاء الكتّاب. ولا يمضي أسبوع إلا ويردنا هاتف أو بريد الكتروني أو جوّي يحمل بعض التعليقات على ما ننشره من شعر أو قصة قصيرة أو دراسات. فدراسة وحيد رازي عن الإسلام العدد 7 استحوذ على اهتمام الاستراليين. ودراسات محمد عبدالرحمن يونس عن "ألف ليلة وليلة" بهرت القراء بسلاسة أسلوبها وقوة امتاعها. ودراسات عادل بشارة فتحت عيون كثيرين على جوانب مهمة من تاريخنا الحديث. ناهيك بالمقالات التي قدمها عيسى بلاطة وبسام فرنجية وشحادة الخوري ويوسف الحاج واسكندر لوقا وريتشارد هيلمان وصوفي ماسون. وهكذا في حقل الشعر والقصة. كيف تجد العلاقة بين الثقافة العربية والثقافة الغربية؟ هل هي علاقة محكومة بالإرث السياسي والديني مثلاً، أم أن واحدة تفوقت على الأخرى؟ وما السبب؟ ما زالت الثقافة العربية رهينة فقدان الديموقراطية الفكرية، ولا أقول السياسية لأنني اعتبر الأولى على درجة أكبر من الأهمية للتحرر الإنساني، خصوصاً ان الثانية تكون مزيفة في كثير من الحالات، حتى في المجتمعات الغربية نتيجة انعدام الديموقراطية الفكرية أو نقصها. المثقف العربي ما زال وارثاً للاستبدادية في التعامل بدءاً من التعامل العائلي الذي يتخذ لبوس "الاحترام" ذريعة لتغطية واقع القمع والاستلاب، وفرض ما يعتبر إرثاً حضارياً من دون الإتاحة لإعمال العقل ليختار ما يراه أكثر تلاؤماً وانسجاماً مع معطيات تكوين شخصية الفرد الجديد التي يجب ان تواكب عصرها وتنبذ التبعية، وتواجه تحديات الاجتياح الفكري الغربي، خصوصاً في مجتمع العولمة الذي يبدو انه واقع في براثن الهيمنة الأميركية. هذه العولمة التي لا بد منها، ولكن لا بد من أن نحررها من التبعية العنصرية والعسكرية. ولا يمكن مواجهة هذه الهيمنة سوى بتضافر جهود جيل واعد متحرر يفتخر بإرثه الثقافي ويوظفه في سبيل الانفتاح على الغير للافادة والاستفادة. ان غياب الفكر الديموقراطي يمكن ان نرده الى الهيمنة السياسية والأصولية. لكنّي أعتقد ان السبب الأساس هو الاستبدادية الاجتماعية، أي استبدادية التقاليد التي كرست الشعائر على حساب الجوهر. أما من حيث تفوق ثقافة على أخرى، فهذا يعتمد على أي جانب من جوانب التفوق نتحدث. الغرب الآن متفوق تقنياً ومدنياً. فمن الطبيعي مثلاً ان نجد ان الانكليزية صارت لغة العالم شكراً للملكة فيكتوريا وانجازاتها الكولونيالية، بإيجابياتها وسلبياتها، وتبع ذلك نشوء العالم الجديد ممثلاً بأقوى دولة في العالم وأكثرها تفوقاً وغنى، ألا وهي الولاياتالمتحدة الأميركية. أما من حيث الثقافة الفكرية والمخزون الذي تتمتع به الأمم الأخرى، فلا أعتقد أنه يمكن القول ان الغرب متفوق. لكن مشكلة الثقافة العربية الحديثة أنها كنز مطمور بفعل المؤثرات الاستبدادية التي تطرقنا اليها آنفاً من جهة، وبفعل جهل العرب في كيفية نبشه وتسويقه من جهة أخرى. وهذا أمر يدعو للعجب إذا ما تذكرنا تاريخ العرب المجيد في الحفاظ على الثقافة وتوصيلها.